عاطف محمد عبد المجيد يكتب: محمد الشحات بين عصا موسى ومنسأة سليمان


الشعر يحب مَن يُخلص له، مَن يمنح حياته، كلها تقريبًا، له، مثلما يحب أن يكون فى بؤرة تفكير الشاعر واهتمامه، وليس أريكة يرتاح إليها وقتما أراد ذلك، كذلك الشعر لا يحب إلا من يحبه، ويبذل الجهد الوفير كى لا يتركه ويُولّى بعيدًا، كما تغار القصيدة على شاعرها ولا تريد أن تراه مهتمًّا بسواها، فهى، فى آن، جاريته ومَلِكته التى عليه أن يُدللها ويعتنى بها، مُظهرًا إياها طوال الوقت فى أبهى ثوب وحُلّة. ومحمد الشحات شاعر مثابر ومجتهد قضى فى أروقة الشعر سنوات وسنوات، يكتب، محبًّا للشعر، معتكفًا على قصيدته ليجوّدها، يلازمه شعور أنه لا يزال فى البدايات، رغم كل ما أنجزه وقدمه للمكتبة الشعرية العربية من دواوين ودراسات عن أعماله.

فى ديوانه «سنبلة لا نملكها»، الصادر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع بالقاهرة، ويهديه إلى كل الآلام التى سكنته عبر رحلته، ما غادره منها وما لم يغادره، وحتى تلك التى لا تزال فى علم الغيب، يبحث عن أمل مفقود ينتظر قدومه، متطلعًا إلى هروب من غربة مطبقة عليه، وغياب يلف أيامه: ويبحث عن شىء يشبه ثدى امرأة تركته وحيدًا وارتحلت. هنا تعانى الذات الشاعرة، أو ذات الشاعر، من الوحدة، وتقاسى آلام الغربة التى تلازمه: غربة سببها عالم يتوق إليه ولا يجىء، حلم ينتظر تحققه ولا يكتمل، واقع جميل لا يهبط من فوق عرشه إلى الأرض، كذلك تحمل قصيدة محمد الشحات هنا وجعًا ينشب مخالبه فى جوفه، وحزنًا جائمًا على قلبها، تطمع فى فرحة تأتى لتطرده بعيدًا، مستعيدة الطفل الذى بداخله، وخوفه من ألا يعيش حياته كما يحلم بها، أن تفر سنوات لهوه ولا يلحق بها.

غلاف الكتاب

خوف مجهول

هنا أيضًا نجد الشاعر مسكونا بخوف مجهول المصدر، لكنه لا يسمح لنفسه بفقدان الأمل فى قادم أفضل يُغيّر مفردات واقع كثيرًا ما ضاق به وبما فيه:

وكأنا نبتكر جمالًا للمستقبل

مختلفًا عن حاضرنا الراكد

أو نرسم فوق الماء

طموحات تفهمها لغة الإبحار.

ما نلاحظه هنا فى «سنبلة لا نملكها» أن قصيدة محمد الشحات تسعى إلى قتل الشك بوصولها إلى اليقين الشعرى الذى يرضيها، ويشعرها بأنها احتلت مكانتها التى تليق بها، معلنة عن قلقها الدائم الذى لا يغادرها، سالكة سُبل النور، هربًا من الظلام والظلم الذى يحاول خنقها ومنعها من ممارسة تفاصيل حياتها، أو إعاقتها عن الوصول إلى سمائها التى تُحلّق دائمًا لتستقر على عرشها.

كذلك نلاحظ أن الذات الشاعرة لا تخجل من إعلان إصابتها بالفشل، ذات حين، وأنها تعرضت للهزائم، فى مسار ركضها ناحية انتصار مدوٍّ يذيب جبال الهزائم التى استقرت داخلها:

فأنا أعلن دون رياء

عن عدد هزائم سكنتنى

ولن أستنكف منها

حين أعرّى نفسى.

جسد متعب

هنا أيضًا نجد الشاعر يقارن بين عصا موسى التى يتكئ عليها ويهش بها على غنم ويشق بها البحر وتلتهم الحيات وله فيها مآرب أخرى، وبين منسأة سليمان التى يدفع بها الجن ويرتاح عليها الجسد المتعب، معلنًا أن هناك علاقة نسب بينهما، مشيرًا إلى أن الشاعر حتى وإن امتلكهما معًا، فستظل معاناته قائمة إلى الأبد، وسيفتقد إلى راحته التى لن ينالها يومًا ما، وكأن الراحة هى السنبلة التى لن يملكها الشاعر مهما سعى إلى ذلك:

فحملت عصاى ومنسأتى

ونزحت بأرض الله

لكى أتحسس خطواتى

فإذا ازداد التعب وراودنى

أرتكن على منسأتى

وعصاى سأهش بها على حزنى

كى لا تأكلها الأرضة

كى لا أسقط من ضعفى.

كما تستنكر الذات الشاعرة هنا المزيفين الذين يجيدون التلوّن ليحصلوا على مرادهم:

لا يسكنها

إلا من حمل بعينيه

فنون الزيف

ويقدر أن يتلون.

كما يمكن أن نقول إن قصيدة محمد الشحات تشير هنا إلى حالة الانقسام والتردد التى تسيطر على الذات الشاعرة:

فأنشطر

إلى نصفين:

نصف يرغب فى أن يكمل

والآخر لا يعرف ما يفعله.

أزمة كبرى

كما تبوح الذات الشاعرة، التى تبحث طوال الوقت عن شىء ينقصها، بأزمتها الكبرى، إذ تشعر بألا أحد يعرفها ويقدر قيمتها:

لم يسألنى أحد من أنت

جلست إلى طاولتى

أقلب فى أوراقى

منتظرًا فنجان القهوة

لم يعرفنى النادل

ولم أشتم روائحها

وسمعت نميمة من زاملنى

كنت أحس بأن سهامًا تطعننى

تأتى ممن رافقنى

آهٍ ما أقسى زيف الأصحاب!

كما نلاحظ أن هناك حسا صوفيا شفيفا تدور فى فلكه بعض قصائد الشحات هنا:

خفت

وناجيت الخالق:

أنت أحن علينا من أرحام حملتنا

تمنحنا ولا نشكرك.. فلا تتركنا.

وهكذا نجد أن قصائد «سنبلة لا نملكها»، التى يفرح محمد الشحات بولادتها وفيها ينثر معاناته، أفراحه وأحلام الطفولة والوطن، مواطن الشوق المسافر، غربته وارتحاله، تحمل وجعًا وحزنًا، تشفق على أحوال الفقراء، وتأمل فى العودة إلى ماض كان أجمل من هذا الواقع الذى يزداد سوءًا يوما بعد يوم.

أما خلاصة رحلة الذات الشاعرة وحقيقتها التى تأمل فى أن تتحول إلى حالة أفضل مما هى عليه الآن، فنقرأها فى هذا المقطع من قصيدة لا يعرفون قيمتى:

يا حسرتى

كل قصائدى ماتت على أسماعهم

وضحكة مكتومة سمعتها

لمستها

فانسحبت داخلى

كى أحضن الأشعار بين أذرعى

وأغمس الأحزان فى ملامحى

وأبكى داخلى.



اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading