الدكتور السيد معوض الطنطاوى يكتب: خيال الصوفية فى «المسُّ العاشق» للروائى أحمد عبده
من التوطئة أدخلنا أحمد عبده إلى عالمه السحرى، بمزيج من خيال رماد القرى، وخلوات الصوفية، وواقع أنثروبولوجيا انقراض الأمم الحتمى، وسيكولوجيا النفس البشرية متعددة المستويات من التعقيد والبساطة، أمتعنا الأديب بالحلم السابح فى فضاءات مباحة، مزج عجيب من الممسوسين، صنعه عبده باقتدار مستدعيا تراثا مجيدا، وجالبا رموزا كثيرة، انعكاسا على واقع معاش. حرفة الأديب واضحة وجلية فى روايته «المسُ العاشق» الصادرة عن دار نشر عناوين بوكس.
من منقلبه الأول أخذنا ابن حتحوت/ الراوى، إلى الحياة الأنثى، وقدره وتجربته، وهو ابن بيئته، أشم دخان قريتى فى الصباح، فى صورة صراع الغريزة وتكثيفها فى عوالم الأحلام، بعدا واستدعاءً إليه لمقارعة واقع أليم، هُياما فى حلم صوفى ملهم، وشخوص جل همها زيارة المنام/ الاتهام، وكل يبكى ليلاه، وما جُحد يقظة أتى حلمًا ولنعد للحلم، فمتن الرواية اتهام الإتيان فى الحلم، أجمع عليه نسوة القرية ضد ابن حتحوت، والرمز والاستدعاء ملهم الرواية، حلم وأحلام تترى، وشخوص كلها فى حلم متواصل به الخير والشر إذاً.. ما الحلم؟ الحلم وفق فرويد هو ذِهان، له كل ما للذهان من هذيانات وأوهام، لكنه ذهان يستمر مدة قصيرة فقط، وهو غير مُضر، بل قد يؤدى وظيفة مفيدة تتم برضا الشخص، لتصل وتنتهى بعمل يصدر عن إرادته. وعند أحمد عبده؛ رأينا الحلم متواتراعند نساء القرية، اتهاما له أصل واجترار عوالم قرى سحرية، نحت لنا خيالا وشخوصا محددة، وسرد متعدد المستويات وصولا لابن حتحوت كمتهم، والتهمة جاهزة: (تسللتُ إلى بيوتهن وفى منامهن، واقتحمتُ أجسادهن) الرواية ص ٢٢. إن الأحلام، وفق فرويد، ليست نشاطا مجانيا للفكر، بل إنها مجموعة من الحلول البديلة للتوترات النفسية التى لم يسعفها الإرواء الواقعى. وهذا بالضبط ما حدث هنا، فالرواية تدور حول نسوة حرمهن الواقع، فلجأن للحلم بحثا عن نشوة مفقودة، بعد أن صار الوباء عاما: (وهل كان سجنى هنا سوى حلم؟) (فعالم الأحلام فضاءات مباحة، لا تعرف القيود).
وعلى مدى الرواية رأينا تأثير الصوفية، وابن عربى، والنفرى، وأن قوة ابن حتحوت النفسية وتحمله لاختبارات صعبة، أتت من المنحى الصوفى من الخلوة، وتربية النفس على الشدة.
ينطلق الصوفى الكبير محيى الدين بن عربى، فى كلامه عن النوم والرؤيا، من معلومة مشتركة بين الناس، وهى أن للإنسان حالتين: حالة تسمى «النوم» وحالة تسمى «اليقظة». ويتابع: إنه فى كلتا الحالتين قد جعل الله للإنسان إدراكًا به يدرك الأشياء. ويسمى هذا الإدراك فى اليقظة حِسًا (الحواس الخمس)، ويسمّى فى النوم حِسًّا مشتركًا (الحس المشترك). فى حال النوم، تنتقل اللطيفة الإنسانية (الروح)، بقواها من حضرة المحسوسات الظاهرة إلى حضرة «الخيال المتصل»، والخيال المتصل عند أحمد عبده، هو متن الرواية، وتصاعدها الدرامى من الشكوى، الكيد، والاستقصاء القاصر لحكم النفى فى البيداء الرمز.
من المنقلب الأول رأينا خط الرواية الواضح الجلى فى لعنة التجربة ذات العشرين عاما، وخط الصراع على ماض فقد (بدأت تجربتى مع الأقدار قبل عشرين عاما، حينما ساقت علىّ مازح ابن العمدة [العمده الحالى]، لكى يُصارعنى فى عشق «فاتن» فلا هو اقتنصها ولا أنا فزتُ بها)، والمؤامرة محبوكة، والاتهام جاهز بالتسلل إلى مخادع النساء حلما، وفى المنقلب الثانى تتصاعد الدرما، وتكمل التجربة، تجربة النفى إلى الصحراء، بحكم سريع من العمدة وإدارة البلد.
وفى المنقلب الثالث، تتصاعد وتيرة خيانة الحلم، وعلى لسان امرأة العمدة مخاطبة له، تأتى زبدة المنقلب (حكمتَ على ابن حتحوت بالسجن بوهم تخيلناه، واليوم تحكم علىّ بالخيانة بوهم تتخيله، فمن أسس حياتنا على حصيرة هذه الأوهام؟).
فى المنقلب الرابع استدعاء لسيرة نبى الله سليمان عليه السلام، فمن يخلص ابن حتحوت من قيد الشجرة؛ إلا ريح صرصر عاتية مسلطة على شجرة ابن حتحوت. بداية من المنقلب الخامس؛ تجاوزا للمحن نرى أثر ابن عربى والنفرى على ابن حتحوت، بل على الرواية كاملة مناما ويقظة: (ربما أراد الله لى بنزهة فى الكون تُسرى عنى بعد محنتى) (تلاوه الليل باب إلى الفهم، والفهم باب إلى المغفرة) (قالها القطب الأكبر حين زارنى فى الليله الأولى لى فى الخلوة بعد محنة البادية)، وهذا الكلام حول الإمكانات المعرفية الثاوية فى حال النوم، الذى يسرده ابن عربى عن خبرة ذاتية، وعن سماع لخبرات الآخرين، يلفت نظر الإنسان ويحرّضه على العناية بقواه الروحية. وذلك، حتى تتمكن لطيفته الإنسانية من استقبال المعرفة من عالم المثال، عند التفاتها عن العالم الملموس.
من المنقلب السادس (حُفت الخلوة بالمكاره، وحُف الدكان بالشهوات) الصراع الأزلى، (والقابض على دينه كالقابض على الجمر، بين خلوة الليل والسياحة فى الملكوت، ونهار ملىء بشهوات الدنيا، الدكان، والبشر، وتوفيق الروح مع البدن حلم الصوفية القديم يتكثف لى الزمن وأطَّلع فى لحظات على براهين ومضامين ومشاهدات وأحوال ما يحتاج إلى دهور وعصور) يُدخِل الخيال ـ إذن ـ الصوفية فى صُلب الأدب، من حيث كلاهما فرارٌ إلى ملجأ، فالصوفية والأدب خيالات تريد الخلاص من الواقع المتناهى، إلى الغيب اللامتناهى، وتريد أن تعبر الزائل إلى الخالد، وعمل الخيال عند الصوفيين عملٌ حقيقى ذو مضمون، وفائدة واقعية (الخيال لا يُنشئ تركيبات غير حقيقية، وإنما يُظهرُ المعانى المخبوءة فى الأشياء، فعملُه عمل التأويل، يعمُد إلى إخفاء الظاهر وإظهار الباطن، يمّسُ بكيميائه العجيبة الأمور المحسوسة فيجعلها رموزاً روحية فكرية) (فالإنسان خلقه الله من مجموعه أنفس، وشامخ طموح، وسوف يخلط نفسا منه بنفس أخرى منه أيضا، لتخرج فى النهاية نفسه المطمئنة. لماذا أفترض أننى الوحيد القادر على خلط مواجيد الخلوه ببضائع الدكان)- الرواية. يضعُ النقد للخيال مقاييس أبرزها (قوة الابتكار، وقوة التشابه بين المشهد الموصوف والمشاعر التى يوحى بها من جمال التصوير، والجِدّة فى الصور البيانية، والقدرة على إبراز المعانى).
وفى المنقلب السابع: بدأت رحلة الخروج إطاعة لهاتف يأمره: (هذه المرة أمرنى الهاتف قائلا {الليله وفى وقت السحر اخرج إلى مكان كذا…، وسمى لى المكان، المصلى المفروش بالقش على شاطئ النهر تحت شجرة مستكة)- الرواية. وتتكون شخصيته الصوفية عن طريق جهاد شاق وصعب ومتواصل، عن طريق القيام برياضات تنوعت بين الجوع والسياحة والأسفار الطويلة والعزلة المطلقة والصمت وذكر الله والتفكر فى مخلوقاته، بجانب مجالسة ومصاحبة وملازمة الصالحين وأولياء الله، والحرص كل الحرص على الالتزام بشرع الله وأحكامه وأوامره ونواهيه. ونهاية فإنها رواية من عالم سحرى بديع، لكل قارئ له عينه الخاصة، ونظرته لجوانب الخيال الصوفى، ولأحمد عبده رؤيته البديعة من منطلق فلسفى، وتناول سحرى استشرافى.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.