الدولة الكاذبة.. كيف أسّس «نتنياهو» حُكمه على الكذب وخداع مواطنيه وحلفائه؟


ردًا على ملف الادعاء الجنوب إفريقى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية فى لاهاى، قال نتنياهو، فى 11 يناير الفائت: «إننا نحارب الإرهابيين، ونحارب أيضًا الأكاذيب». لكن الحقيقة أن نتنياهو هو الطرف الذى يحترف الكذب ويعيش على الأكاذيب لضمان استمرار مستقبله السياسى.

علاوة على الأكاذيب المكررة بشأن أحداث عملية «طوفان الأقصى»، والتى ثبت عدم صدقيتها مرارًا وتكرارًا، وفى مقدمتها ادعاء اغتصاب النساء وذبح وحرق الأطفال، روّج نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزّة العديد من الأكاذيب التى نفنّد بعضًا منها فى هذا التقرير..

حرب غزة

١جيش الاحتلال هو «أكثر جيوش العالم أخلاقية» و«نخوض أكثر الحروب أخلاقية وعدالة»

فى العديد من المناسبات، كرّر نتنياهو «نخوض أكثر الحروب أخلاقية وعدالة» وأن جيش الاحتلال هو «أكثر جيوش العالم أخلاقية» بدعوى «حق الدفاع عن النفس» الذى أكد العديد من الهيئات الدولية والحقوقية انتفاءه بموجب القانون الدولى لأى «سلطة احتلال».

أما عن «الأخلاق» فى حرب إسرائيل الوحشية على غزّة، فتدحضها عشرات المجازر والحوادث المشينة لاستهداف المدنيين والقطاع الطبى والهيئات الإغاثية، بما فى ذلك الأممية، بل واستهداف المواطنين الجوعى إذ يتهافتون على شاحنات المساعدات أملًا فى تأمين طعام يكفيهم لسويعات معدودة.

وفق أحدث دراسة لـ«لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا (الإسكوا)»، فإن جيش الاحتلال قتل أكثر من 1% من سكان غزّة خلال 100 يوم فقط، ما يعنى دموية أكثر من أى نزاع مسلح آخر فى القرن الحادى والعشرين. علمًا أن 70% من الضحايا هن من النساء والأطفال حصرًا بحسب الأونروا. أقرب مثال على هذا القدر من إراقة الدماء، هو «الإبادة الجماعية ضد التوتسى فى رواندا عام 1994».

هذه الأرقام تدحض أى مزاعم بـ«أخلاقية» جيش الاحتلال أو حتى التزامه بمبادئ القانون الدولى خلال الحرب. ولعل حادثة تصفية الشقيقين ناهض ورامز بربخ رغم منحهما الأمان ورفعهما الراية البيضاء، ثم حادثة قتل الطفلة هند رجب، ابنة السنوات الست، فى سيارة خاصة إلى جانب خالها وزوجته وأبنائهما الثلاثة، علاوة على مسعفين اثنين من الهلال الأحمر الفلسطينى رغم التنسيق المسبق مع الاحتلال- أبرز دليل على انعدام إنسانية جيش الاحتلال.

حرب غزة

ويأتى قرار محكمة العدل الدولية الأخير تأكيدًا على كذب الادعاء. أقرت المحكمة بـ«معقولية» اعتبار أن أفعال إسرائيل ضد سكان غزّة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ما دفعها لإصدار ستة تدابير مؤقتة، وإصدارها أمرًا لإسرائيل باتخاذ جميع التدابير التى فى وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية، بما فى ذلك منع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، وضمان وصول المساعدات والخدمات إلى الفلسطينيين المحاصرين فى غزّة، والحفاظ على الأدلة على الجرائم المرتكبة فى غزّة.

حتّى كذبة السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، الأمر الذى طالما تشدّق به نتنياهو وجيشه، باعتباره إحدى علامات احترام القانون الدولى والإنسانى فترة الحرب، فقد دحضها نتنياهو بنفسه.

فى 18 نوفمبر الفائت، اعترف نتنياهو بأن «المساعدات الإنسانية ضرورية لضمان استمرار الدعم الدولى (لإسرائيل). فبدون المساعدات الإنسانية سيجد حتى خير أصدقائنا الصعوبة فى دعمنا طويلًا، وقد يكون من الصعب علينا للغاية متابعة الحرب حتى النهاية»، مشددًا على أنهم يسمحون بدخول «الحد الأدنى» فقط منها.

ولفت نتنياهو إلى أن الموافقة على الطلب الأمريكى بإتاحة دخول حاويتين فقط من الوقود يوميًا إلى جنوب القطاع بهدف واحد هو «تشغيل مضخات المياه والصرف الصحى، التى لولا تشغيلها يُتوقع تفشى الأوبئة الفورى. وينبغى الإدراك أن تفشى الأوبئة من شأنه المساس بكل من سكان القطاع وجنود جيش الدفاع الذين يتصرفون فى القطاع على حد سواء». يقر نتنياهو صراحةً بأنه يخدع حلفاءه الغربيين ويستعمل المساعدات الإنسانية فى ذلك وفقط لأجل المصلحة الإسرائيلية لا الإنسانية حتى، ومع ذلك تستمر الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها فى الانسياق وراءه.

وفق ما صرّحت به رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش، فى ديسمبر الماضى، فإن الحرب الوحشية المستمرة على غزّة لا تمثل فشلًا أخلاقيًا لإسرائيل وجيشها فقط، وإنما للمجتمع الدولى ككل إذ حذرت من تأثير بعيد المدى لهذه الحرب «على الأجيال، ليس فى غزّة وحدها».

٢– «نحارب من أجل ضمان أمننا لأجيال قادمة»

علاوة على مبدأ العنف لا يولّد إلا العنف- أو كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، من أن عملية «طوفان الأقصى» و«هجمات حماس لم تأت من فراغ» وإنما نتيجة أن «الشعب الفلسطينى خضع على مدى 56 عاما للاحتلال الخانق»- فإن الأصوات باتت تتعالى فى إسرائيل للتحذير من أن الحرب المستمرة لم يعد الهدف من ورائها سوى «البقاء السياسى لشخص واحد وحكومته».

هذا ما أكد عليه فى مقال تحليلى عبر صحيفة «هآرتس»، الصحفى الإسرائيلى يوسى فيرتر، قبل أيام. شكك فيرتر فى أن نتنياهو الذى أمر، فى أكتوبر 2018، بالإفراج عن 1027 أسيرًا فلسطينيًا من السجون الإسرائيلية مقابل جندى إسرائيلى أسير، يتشدد حاليًا فى أى عرض من حماس للإفراج عن أكثر من ١٠٠ أسير/ة إسرائيلي/ة. واعتبر أن إصراره على المضى قدمًا فى الحرب الباهظة التكلفة لا يمكن تبريره إلا بخوفه من خسارة اليمين المتطرف وبالتالى حل الحكومة، ما قد يعنى نهاية مسيرته السياسية وهو الذى انخفضت شعبيته إلى الحضيض بعد «طوفان الأقصى»، بحسب استطلاعات الرأى الإسرائيلية.

علاوة على الخوف من خسارة حكومته، ينتهز نتنياهو طول أمد الحرب لإبطاء محاكمته فى تهم الفساد والرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة واستغلال النفوذ. كما يتذرّع نتنياهو بالحرب ويرفض إجراء الانتخابات لاختيار حكومة جديدة قبل انتهائها.

٣– «نحن فى الطريق إلى تحقيق النصر التام»

فى خطاباته شبه اليومية إلى مواطنيه، يصر نتنياهو على أنهم «فى الطريق» إلى تحقيق ما يصفه بـ«النصر التام أو المطلق أو الساحق»، متعهدًا «لن نتوقف قبل أن نحققه. وهذا الموقف يمثل الأغلبية الساحقة من الشعب. من المهم بالنسبة لى أن تعلموا أن هذا فى منال اليد».

فى حين أن التظاهرات الاحتجاجية ضده بما فى ذلك أمام منزله، ترد على زعمه بخصوص تأييد الحرب، فإن دحض كذبة «النصر التام» يأتى من أحد أبرز خبراء الحرب الإسرائيليين وأحد أهم أعضاء ما تُعرف بـ«حكومة الحرب الإسرائيلية»، الجنرال المتقاعد غادى آيزنكوت.

آيزنكوت فقد ابنه فى المعركة البرية داخل قطاع غزّة ما يعنى أنه أجدر من نتنياهو بالتوعّد ضد حركات المقاومة الفلسطينية وفى مقدمتها حماس، وبالرغبة فى استمرار الحرب أملا ربما فى «الانتقام». مع ذلك، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلى الأسبق، نهاية الشهر الفائت، إن من يتحدثون عن «هزيمة مطلقة» لحماس «لا يقولون الحقيقة»، وإن «الحديث عن النصر التام» فى غزّة «غير واقعى»، بل اعتبر أن الحل الوحيد لإعادة الأسرى الإسرائيليين من غزّة هو «صفقة تبادل أسرى» وليس الحرب الطويلة الأمد.

٤– «خلافًا لما يقال، لا يوجد أى اقتراح حقيقى من جانب حماس»

فى 22 يناير الماضى، اجتمع نتنياهو بممثلين عن أسر الإسرائيليين الأسرى فى غزّة، وحاول التنصّل من تقاعسه فى إعادتهم عبر صفقة تبادل كما تسعى مصر وقطر وحتى الولايات المتحدة منذ أشهر، فقال لهم: «خلافًا لما يقال، لا يوجد اقتراح حقيقى من جانب حماس»، متهمًا حركة المقاومة الفلسطينية بالمماطلة وعدم إظهار أى رغبة فى الاتفاق.

اللافت هذه المرة أن نتنياهو هو من دحض كذبته وبشكلٍ مسبق إذ صرّح قبل ذلك بـ24 ساعة فقط، يوم 21 يناير، بأن «حماس تطالب مقابل الإفراج عن مخطوفينا، بإنهاء الحرب، وسحب قواتنا من غزّة، والإفراج عن جميع قتلة ومغتصبى النخبة وإبقاء حماس على حالها»، ما يعنى أن هناك اقتراحا واضحا مقدّما من الجانب الفلسطينى.

٥– «السيطرة على غزّة بعد انتهاء الحرب»

عشية جلسة محكمة العدل الدولية للاستماع إلى الادعاء الجنوب إفريقى فى اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطينى فى غزّة، صرّح نتنياهو،، فى كلمة تبدو أقرب إلى مغازلة قضاة المحكمة الدولية: «دعونى أوضح بعض النقاط بشكل جيد؛ ليس لدى إسرائيل أى نية لاحتلال غزّة بشكل دائم أو تهجير سكانها المدنيين. هدفنا هو تخليص غزّة من إرهابيى حماس وتحرير رهائننا. وبمجرد تحقيق ذلك، يمكن تجريد غزّة من السلاح والتطرف، وبالتالى خلق إمكانية لمستقبل أفضل لإسرائيل والفلسطينيين على حد سواء».

يتناقض التصريح تمامًا مع تصريحات نتنياهو قبل وبعد فترة المحاكمة. فى نوفمبر الماضى، أكد نتنياهو أنه لا مفر من سيطرة جيش الاحتلال على غزّة بعد انتهاء الحرب، متابعًا بأنه لن يقبل الاكتفاء بوجود قوات دولية للإشراف على الأمن على طول الحدود مع القطاع المحاصر.

وعاد وشرح فى 28 يناير أيضًا: «يستلزم الانتصار المطلق أن تتحول غزّة إلى منطقة منزوعة السلاح، وخاضعة للسيطرة الأمنية الكاملة الإسرائيلية، والسيطرة الإسرائيلية على كل ما يدخل غزّة». بل استدرك فى أحد تصريحاته بالقول: «لن أتنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على المنطقة بأكملها غرب الأردن – وهذا يتعارض مع قيام الدولة الفلسطينية».

الإسرائيليون ينتخبون نتنياهو لمهارته فى الكذب!

بانتظام، يحذّر كتاب ومحللون وحتى مسؤولون حاليون وسابقون فى إسرائيل من «كذب» نتنياهو الذى يبدو فى سياقه العام أنه يخدم مصلحة إسرائيل لكنه فى حقيقة الأمر لا يخدم سوى نفسه، الرجل الأكثر بقاءً فى السلطة فى تاريخ إسرائيل القصير. فهل يخفى على الإسرائيليين كذب واحتيال نتنياهو؟، الإجابة هى بالتأكيد: لا.

مطلع الشهر الجارى، قالت الصحفية الإسرائيلية كارولينا لاندسمان، فى مقال رأى عبر صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، تحت عنوان: «طريق إسرائيل إلى التعافى يبدأ بالتخلص من أكاذيب نتنياهو»، إن نتنياهو يتعمّد «إفشال صفقة تبادل الأسرى» ويُلقى باللوم فى ذلك على حماس ليستطيع مواصلة حربه الوحشية على قطاع غزّة.

شرحت لاندسمان: «مرض نتنياهو ليس خفيًّا على أحد. الجميع يعرف أنه كاذب.. حتّى أنصاره، ينتخبونه وهم يعلمون أنه شخص يجيد الكذب، ظاهريًا لصالح البلاد». وتابعت بأن «نتنياهو لم يكذب نيابة عنّا فحسب، لقد كذب علينا أيضًا. ويمكن القول إننا اخترنا نتنياهو كمجتمع حتى يكذب علينا، لأن أكاذيبه خدمتنا جيدًا».

من الأكاذيب التى دأب نتنياهو على ترديدها وإيهام الإسرائيليين بها حتى باتوا يرددونها، بحسب الصحفية الإسرائيلية: «أننا نستطيع أن نجعل التطلعات الوطنية لملايين البشر (تقصد الفلسطينيين) تختفى وأننا نطمح إلى السلام بينما نبنى بشراهة على أراضٍ محتلة، ونستولى بوقاحة على المزيد والمزيد منها» و«أن السلام ممكن دون إعادة تلك الأراضى» و«أنه لا يوجد احتلال» و«أن الفلسطينيين وحدهم مذنبون بقتل عملية السلام».

وفى مقالة افتتاحية لـ«هآرتس»، الشهر الماضى، حذّر فريق تحرير الصحيفة الإدارة الأمريكية صراحةً من تصديق أى وعود لنتنياهو. ورد فى المقال: «لا جدوى من تصديق نتنياهو إذا أبدى أى استعداد لمناقشة حل الدولتين. فى هذه المرحلة، يجب على الأمريكيين أن يعرفوا أنه لا قيمة لأى تصريح أو وعد من نتنياهو، وأنه ليس رجلًا يلتزم بكلمته».

وقبل نحو عامين، وصفه حليفه اليمينى المتطرف بتسلئيل سموتريتش، النائب فى الكنيست آنذاك ووزير المالية راهنًا، بأنه «كاذب وابن كاذب» أو «a liar and a son-of-a-liar» فى تسجيل مسرّب بثته هيئة البث الإسرائيلية الرسمية (كان). اعتذر سموتريتش لاحقًا عمّا قال، وأعلن مكتب نتنياهو أنه «سامح» حليفه على «افترائه» بذريعة الحفاظ على وحدة الصف. لكن هذا التعبير بات ملاصقًا لنتنياهو داخل الأوساط السياسية والثقافية الإسرائيلية.

إذًا، لماذا يستمر الإسرائيليون فى تصديق نتنياهو والانجرار خلف أطماعه السياسية الشرهة؟، الجواب فى مقال للصحفية الإسرائيلية، إيليت شانى، فى هآرتس أيضًا، نُشر نهاية الشهر الماضى. نقل المقال عن البروفيسور أوريال أبولوف، المتخصص فى العلوم السياسية فى جامعة تل أبيب، قوله إن سر استمرار نتنياهو فى السلطة هو اعتماده «سياسة تخويف» الإسرائيليين و«غرس الأوهام فى خيالهم» بأنه هو «المنقذ الوحيد». ووصفه بأنه «جبان يحب أن يجعل الناس يرتعدون» باحترافه «الوقوف أمام الكاميرا، ورفع الحاجب، والتنقّل بين نبرة الصوت وأخرى».



اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading