ترجمات.. أبوعلم المصريات الذي ذاب في حب المحروسة بفضل اكتشاف شامبليون


استطاع فك شفرة ماضى مصرالقديم.. في 27 سبتمبر 1822، وكان لكشف «شامبليون»، لألغاز الكتابة الهيروغليفية على حجر رشيد، الذي أدخل اسمه في سجل المجد، وبفضل اكتشافه عادت مصر القديمة تتحدث عن نفسها، راحت المعابد المصرية القديمة والبرديات المنتشرة في جميع أنحاء العالم تتكلم. كل هذه الآثارأخذت تتكلم فجأة وتبوح بما كانت تتكلم عليه لأكثر من ألف وسبعمائة عام. كما أسس جان فرانسو شامبليون علم المصريات بعدما حل شفرة الكتابة الهيروغليفية، فارتبط اسمه إلى الأبد باسم مصر التي أحبها، إذا كان شامبليون قد تمكن من الحل، فذلك لأنه لم يتعامل معه بعقله فقط بل بقلبه أيضا، وهذا هو الجانب الأهم في العملية كلها…عشق مصر، أي أنه في تفانيه لها أعطاها طاقته كلها وصحته وفكره، لم يكن حبه مقصورًا على تاريخها وآثارها وإنما كان لشعبها أيضًا، ومات شابًا في الثانية والأربعين من عمره في 4 مارس 1832، وهذا ما أظهره «جان لاكوتير»كمؤرخ دقيق بخلاف كونه أديبًا فذًا، في كتابه «شامبليون.. حياة من نور»- ويُعد هذا الكتاب الثانى له بعد كتابه الأول عن جمال عبدالناصر، الذي عرفه عن قرب وعاش في مصرعدة سنوات- وصدر الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة، في عام 2000، من ترجمة وتقديم نبيل سعد.

جون فرانسوا شامبليون ولد في 23 ديسمبر 1790 في فيجاك بفرنسا، كان والده صاحب مكتبة، وكان قبل ذلك بائع كتب متجول، وأمه جان فرانسواز جاليو من أصل بورجوازى لكن أمية، وكان جان فرانسوا شامبليون آخر أبناء والديه السبعة.

كان طفلًا عبقريًا، في سن الثانية عشرة، كان بالفعل في طريقه نحو إتقان ست لغات قديمة وشرقية، وكانت هذه اللاتينية واليونانية والعبرية والكلدانية والعربية والسريانية، وقد ناضل شامبليون لسنوات عديدة كأستاذ مساعد، ومكافأة لنجاحه في فك رموز الهيروغليفية، عينه الملك تشارلز العاشر أول أمين للمجموعة المصرية في متحف اللوفر في عام 1826. وفى الفترة من 1828 إلى 1830 قام برحلته الوحيدة في مصر. وعندما عاد إلى باريس عام 1831، تم إنشاء أستاذية في التاريخ والآثار المصرية خصيصًا له.

يوضح «جان لاكوتير» في كتابه لأهمية كشف شامبليون بقوله: لم يكن اكتشاف شامبليون الذي حدث عام 1822 هو لحروف اللغة المصرية القديمة المقدسة فقط وإنما وذلك هو الأهم اكتشاف المنظمة المركبة التي تقوم عليها استخدامات الحروف الهيروغليفية..الذي حدث بعد ذلك الاكتشاف هو أن جميع الصروح والمعابد المصرية القديمة والبرديات المنتشرة في جميع أنحاء العالم راحت تتكلم. وكان بعض هذه الآثار قد نقله الرومان منذ أكثر من سبعة عشر قرنًا عندما احتلوا مصر.

مثل ذلك المسلات التي تزين ميادين روما إلى يومنا هذا، والبعض الآخر انتزاع من جدران المعابد المصرية ومن المقابر الفرعونية، ويتم إخراجه من مصر، ليكون متاحف في بلدان العالم المختلفة.ولكى نقدر أهمية ما اكتشفه شامبليون يجب أن نعلم الكمبيوتر لم يتمكن من كشف ألغاز لغات قديمة صعوبة من لغز الهيروغليفية.

حب شامبليون لمصر كان خالصًا وكاملًا، فهو يقول: «إنها كل شىء بالنسبة إلى»، كما أنه أحب شعب مصر عندما زارها وأقام فيها عامًا ونصف تقريبًا. كتب لأخيه من مدينة الأقصر عندما زار مصر في أواخر حياته ومكث بها نحو ثمانية عشر شهرًا: «إن كيانى كله لمصر، إنها كل شىء بالنسبة لى».. ويقول جان لاكوتير: «نراه، يهتم بسرعة كبيرة بهذا الشعب الوريث لتاريخ كله عظمه..ألا إن حالته الحالية تؤثر فيه بعمق..وكان لا يتحرج أثناء حياته اليومية في صعيد من تقديم نصائحه للفلاحين لكى يتفادوا المضايقات التي كانوا يتعرضون لها من قبل السلطات المحلية أو لكى يتفادوا تسديد بعض الضرائب المجحفة على الرغم من أن ذلك لم يكن ليخفى عن عيون جواسيس الباشا». (محمد على الكبير). كما أن شامبليون قد عمل كل ما في وسعه لدى الباشا لكى يحافظ على الآثار المصرية القديمة. إذ أن المعابد كانت تفكك في تلك الفترة وتستخدم أحجارها في تشييد المصانع وخاصة مصانع السكر، وعندما كتب شامبليون مذكرة للباشا عن هذا الموضوع كان قد تم بالفعل تدمير ثلاثة عشر معبدًا من أجمل المعابد وأكملها. قال له شامبليون بدبلوماسية كبيرة«إنه من مصلحة مصر أن تعمل حكومة سموكم على الحفاظ الكامل على الصروح والمبانى الأثرية الذي تسبب هدمها في إثارة الأسى في أوروبا كلها، ويعلم الكافة بالطبع أن هذه العمليات التخريبية البربرية تمت ضد رغباتكم السامية ونواياكم الطيبة المعروفة لدى الجميع وعلى يد حفنة من الأفراد لايقدرون الأضرار التي يسببونها للبلاد دون أن يكونوا على دراية بذلك».

يلقى كتاب «شامبليون.. حياة من نور» الضوء أيضًا على العلاقات التي كانت قائمة بين فرنسا ومصر في مرحلة من أهم مراحل تاريخها الحديث، مرحلة بناء الدولة الحديثة على يد محمد على ومحاولة تحويل مصر ولاية تتبع الإمبراطورية «الخلافة العثمانية» إلى دولة مستقلة ذات سيادة..يكفى أن نشير في هذا الصدد إلى أن محمد على رفض تمامًا حفر قناة السويس وقاوم كل الضغوط التي مارسها عليه الفرنسيون وعلى الأخص قنصلها الداهية دروفيتى الذي كان مقربًا جدًا من الباشا ويعتبر من أهم مستشاريه، وعلى الرغم من علماء فرنسا الذين تركوا بلادهم شبانًا وجاءوا إلى مصر بعدما كفروا بالحياة في فرنسا وتطوعوا للعمل على نهضتها ومن هؤلاء الشبان سيمونيون وغيرهم..إلا أن الباشا ظل على رفضه، لا يلين بالنسبة لحفر قناة السويس، لأنه بنظره الثاقب تأكد أنها ستجلب على مصر المصائب والكوارث، لأنها ستصبح عرضه للأطماع العالمية. فانتظر الطامعون وفاته إلى أن رضخ «سعيد» للضغوط وثبت صحة تقديرات الباشا.

إذا كان الحديث عن تلك الفترة من الحياة السياسية المصرية مشوقة فإنها تصبح أكثر تشويقًا من خلال الخلفية التي وضعها

جان لاكوتير لأحداث حياة شامبليون تشعر أنك في قلب عملية اتخاذ القرار سواء في مصر أو فرنسا وبلاد أخرى كثيرة.

كانت الفترة التي عاشها شامبليون هامة بالنسبة لمصر وبالنسبة لأوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، إذ رأت صعود بونابرت على أنقاض الثور الفرنسية إلى أن أصبح الإمبراطور نابليون وسقوطه وعودة الملكية ثم سقوطها.

ويقول «لاكوتير» لم يكن شامبليون يحب باريس، وكان يسميها «عاصمة فرنسا القذرة» وظل على رأيه هذا إلى أن توفى، أما رأيه عن القاهرة فهو مختلف تمامًا..سحرته فأحبها، بهرته فأشاد بها، وكتب إلى أخيه بعد أن زارها ومكث بها عدة شهور: «قالوا أشياء سيئة كثيرة عن القاهرة، أما أنا فسعيد جدًا فيها إن شوارعها التي يبلغ عرضها من ثمانية إلى عشرة أقدام تبدو لى محسوبة بعناية تامة لتفادى تأثير درجات الحرارة المرتفعة جدًا. ورغم أنها مرصوفة فهى نظيفة لدرجة تثير الإعجاب..باريس وهى في قمة أناقتها أكثر قذارة منها». بفضل اكتشاف شامبليون عادت مصر القديمة تتحدث عن نفسها فتم التواصل بين العصور القديمة والحديثة لتاريخها الذي ظل مبتورًا عنها لأكثر من سبعة عشر قرنًا، وتواكب هذا الاتصال بين المراحل التاريخية مع بداية بناء مصر الحديثة على يد محمد على الكبير.



اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading