ترجمات.. رواية «الأم».. رائعة مكسيم جوركى
تحتفل مصر والأمة العربية فى الحادى والعشرين من مارس من كل عام بـ«عيد الأم» تكريماً وتقديراً لدور الأم على عطائها ومشاركتها الفعّالة على كافة الأصعدة، قد يختلف موعد الاحتفال بعيد الأم من دولة لأخرى، لكن الأمومة بكل ما تحمله من قيم إنسانية عظيمة وعميقة قد ألهمت العديد من المفكرين والأدباء والشعراء، وتبقى الأم فى الأدب والفن، كما هى فى الحياة رمزاً لكل موقف جميل ونبيل. ومن الأعمال الأدبية العالمية، التى جسدت قيمة الأم، رائعة الأديب الروسى مكسيم جوركى رواية «الأم» التى تُعد من أيقونات الأدب العالمى، من الأعمال التى لاقت رواجاً وقراء فى داخل روسيا وخارجها.
تقدم لنا رائعة «جوركى» تاريخا عن الحياة الاجتماعية الاقتصادية التى عاشها الروس إبان الحكم القيصرى، فحياة العمال كانت ضمن هذا الواقع، والتى شاهدها «جوركى» بعينه خلال المسيرة الطويلة التى قطعها بحثاً عن القوت.
«مكسيم جوركى» هو الاسم المستعار الذى اشتهر به الكاتب الروسى أليكس مكسيموفيتش بيشكوف، وهو مولود فى 16 مارس 1868، ومات فى عام 1936، يُعد «جوركى» من كبار الكتاب الروس، فقد برز واشتهر قبل ثورة 1917، وأصبح بعدها رائداً ومؤسساً للأدب السوفييتى، فهو الوارث لتقاليد الأدب الروسى الكلاسيكى، بدأ حياته الأدبية منذ عام 1892 بقصة «ماكار تشودرا» وأتبعها بأعمال قصصية وروائية ومسرحية كثيرة، فضلاً عن ذلك سيرته الذاتية فى ثلاثة أجزاء وهى: «طفوتى، بين الناس، جامعاتى»، وقد ترجمت معظم أعماله إلى العديد من اللغات، ومنها اللغة العربية.
تُعد رواية «الأم» أول عمل أدبى يمثل الواقعية الاشتراكية فى العالم، وكان لها تأثير كبير وفعال فى توجيه الوعى السياسى والثورى لدى العمال والفلاحين فى روسيا الذين ترجموا ذلك الوعى عملياً فى ثورة أكتوبر 1917، كما امتد تأثير جوركى وروايته «الأم» إلى كثير من الأدباء الذين جاءوا بعده فى بلاده، وفى غيرها من بلدان العالم، فقد رأى جوركى فى الإنسان قدرات هائلة، وإمكانيات كامنة تحتاج إلى محرض ومثير لينطلق إلى حمل راية التغيير وبناء مستقبل مشرق وعالم ملؤه العدالة والمساواة والأخوة والسلام. بدأت الرواية تظهر باللغة الإنجليزية فى نيويورك، ثم ألمانيا، وفى العام التالى بدأت ترجمة الرواية إلى اللغات الرئيسية فى العالم، ومنها الفرنسية. وقد اعتمدت هذه الترجمات على المخطوطة التى نقحها جوركى فى «كابرى» فى الأسابيع الأخيرة من عام 1906، فقد عاد إليها لتنقيحها فى عام 1907، ثم فى عام 1913، وأخيراً فى عام 1922.
غير أن هذه التنقيحات بالغة الأهمية لا تغير الخاصية الأساسية للرواية. إن هدف جوركى لم يكن أن يقص ببساطة فى عام 1906 مقطعاً من النضال الثورى فى «نيجنى نوفجورد» خلال عام 1902، بل كانت غايته إثراء ملامح أبطاله بملامح لمجاهدين آخرين. فمنذ عام 1902 إلى عام 1906 كانت الحركة العمالية قد نضجت، وكان لينين قد أسس الحزب وطهره من الاقتصاديين، وجعل منه منظمة جديرة بقيادة الثورة الديمقراطية فى نضالها ضد الحكم الاستبدادى. وكانت هذه السنوات الأربع من النضال قد أنضجت تحت قيادته طليعة عمالية ثورية من طراز جديد، وهذه الطليعة هى التى اختار جوركى أن يبرزها، فأدخل فى روايته التجربة السياسية لسنوات الثورة، وإلى هذا الوعى السياسى كان أبطاله مدنيين بعظمتهم وحقيقتهم، حقيقة التاريخ.
من أجل هذا لم يكن بناء الرواية قائماً على عقدة تحل، وتعقد أقدار شخصية، بل على نمو روابط طبقياً تعكس الأقدار الشخصية فيها ما بينها من تناقضات، كما يمكن للرواية أن تنتهى بالحكم على بول واندريه بتوقيف الأم، لكن هذه الهزيمة لا تضعف شيئاً من الثقة بالنصر النهائى، نصر القيم الإنسانية التى يحملونها فى أعماقهم. وكذلك فإن بول وأمه كانا يدركان دائما أنه لا حظ لهما بتجنب السجن، والنفى، لكنهما كان يدركان مصيرهما شخصياً، وهو ما يجب أن يكرس لتنشيط الحركة. وبهذا المعنى تكون خاتمة الرواية إيجابية متفائلة، لأنها تظهر الواقعية فى ذكريات جوركى الثورية، ويكون التاريخ هو نفسه الذى تكفل بإظهار الحقيقة. وقد امتدحه لينين فقال: «إنه يربط بصميمية صنيعه الأدبى بالحركة العمالية فى روسيا وفى العالم أجمع».
بطلا الرواية هما الطفل «بافل» وأمه «بيلاجيا نيلوفنا» اللذان تدور حولهما الأحداث، وهما يمثلان التحول الفكرى الذى واكب الواقع الروسى فى ظل الظروف القاسية التى مرا بها. منذ مطلع الرواية يضعنا جوركى وجهاً لوجه أمام المكان الذى تجرى فيه أحداث الرواية، وهو ضاحية عمالية، يعمل معظم أبنائه فى المصنع القريب من الضاحية. ومنذ البدء يقدم لنا جوركى لوحة قاتمة عن هذا المجتمع الذى ينتمى إلى عصر التسلط والظلم، ويسوده الفقر والقهر والحرمان والمهانة والذل. ولم يكن حال المرأة فى ذلك المجتمع أفضل، فقد كانت مهانة ذليلة.. كانت بيلاجيا واحدة من هؤلاء النساء اللواتى عانين كثيرا من الذل والقسوة والإهانة فى حياتها وقسوة زوجها فلاسوف الذى مات وابنه لا يتجاوز السادسة عشرة من العمر، عاشت هذه الأم حياتها لم تعرف الراحة طوال أربعين سنة. فى قلب الأحداث أخذت تتطور شخصية الأم بطلة الرواية، فهذه الأم العاملة تكتشف عبر ابنها الثائر المتمرد على الظلم أن للحياة دروبًا أخرى غير الدموع والخوف. حتى وجد ضالته المنشودة فى الحزب الذى انتسب إليه، وفى أولئك الرفاق الذين وثق بهم وآمن بأهدافهم وغاياتهم وطموحاتهم.
وكانت الأم السبب الأول فى تغيير ابنها وتوجيهه الوجهة الصحيحة. وفى كل لقاء بأمه، وفى كل حوار يدور بينهما كان يوقظ فيها ما كان ساكناً منذ سنين، شكلت هذه الحوارات نقطة تحول كبيرة فى حياة بيلاجيا نيلوفنا، يثيرها بكلماته عن العدالة والحقيقة، يجعلها تعى واقعها وتغير أفكارها التى ورثتها عن مجتمعها. وكانت سعيدة بابنها. وأدركت أنه يجب عليها أن تكون فاعلة مؤثرة، ولو بقدر بسيط، وتقف بجانبهم وتناصرهم وتسير معهم وترافقهم فى طريقهم، طريق النضال والكفاح. ألقى بابنها ورفيقه أندريه وغيرهما فى السجن، إلا أن ما قاموا به كان علامة فارقة فى تاريخ هذه الثورة العمالية، إنها البداية، وكل بداية لابد أن تصطدم بعقبات كثيرة. لكنها كانت مؤشراً على الاستمرار والمضى فى الطريق الذى ساروا فيه.. وهذا ما نلاحظه فى تصرف الأم حين سقطت الراية الحمراء من يد ابنها بعد القبض عليه وتمزيقها. تمسك الأم بما تبقى من الراية.. ولم تهدأ بعد اعتقال ابنها. وقد شكل حمل الراية والعودة بها إلى البيت مرحلة جديدة من مراحل تطور شخصية الأم. إنها لا تريد للمسيرة أن تنتهى، ولا تريد للقضية أن تنتهى باعتقال ابنها ورفاقه.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.