سفيان صلاح هلال يكتب: رجل الدين فى صورة غير مسبوقة.. فى «عرش على الماء» لمحمد بركة
علاقة الفنون الإبداعية برجال الدين قديمة، ولو رجعنا إلى تماثيل الكهان، صور السيد المسيح والسيدة العذراء، لوحات الباباوات، لاكتشفنا هذه العلاقة بيسر، لكن معظم العلاقة بين الفن ورجال الدين فى عصور ما قبل التنوير كانت علاقة إيجابية تزيدهم سلطة وتمنح مشاهديهم فى الإبداع رهبة أو تجليات تأثيرية ذات طابع روحى، وربما لإبداع ألف ليلة وليلة دوره الذى يتأرجح بين النقد البسيط حينا، والتصوير الروحى أحيانا لسطوة وقدرات رجال الدين والسحرة والروحانيين بوجه عام. حدث هذا أيضا مع حركة التنوير والصناعة، حيث ظهرت فنون الكتابة السردية المعاصرة، كالرواية والقصة القصيرة، وهى فنون حديثة نسبيا، لكنها كانت مواكبة ومؤازرة، ولأن الصناعة جُبلت على التطوير الدائم والابتكار المتجدد، فقد أعطت للعقل مجالًا كبيرًا لم يكن مطلوبًا أيام الزراعة، والتى تتكرر فيها دورة المحاصيل، زراعة ورعاية وحصادا، بطريقة دائمة. ولأن حركة التنوير قامت على الفلسفة فى الأساس والنقد واستخدام العقل وإعادة التفكير فى المسلمات والمقدسات، فكان من الطبيعى أن نقرأ نتائج تفكيك المنظومة الدينية فى كتب المفكرين أو إنتاج المبدعين الغربيين، ثم تبعهم العرب وغيرهم، ونستطيع سرد آلاف الأمثلة هنا، من شخصيات دينية نقدتها الأعمال الإبداعية على المستويين العالمى والمحلى.
وفى الحقيقة كان النقد شاملًا لكل مجالات الحياة، ولكن لرسوخ مكانة الدين كان الأكثر وضوحًا ما يتعلق به من فكر جديد. مثلا قس القرية «جريجوريس»، الذى رسمه «كازانتزاكيس» فى روايته «المسيح يصلب من جديد»، والذى يسترزق على الموت والطقوس ولا يقدم شيئا ذا فائدة للمجتمع، فضلا عن ضعفه أمام الوالى، وتطلعاته الفردية التى لا تليق برجل يدعو الناس للزهد فى ملكوت الأرض والتطلع إلى ملكوت السماء. وفى الأدب العربى، كلنا شاهدنا نموذج الشيخ حليف السلطة، الذى يسك لها الفتاوى التى هى ضد تعاليم الشرع أصلا، كما هو الحال فى فيلم «الزوجة الثانية»، والشيخ يوسف الذى باع المبادئ بالمصلحة فى رواية «الأرض»، والأمثلة كثيرة. لكن الأعمال التى أفردت عملًا كاملًا لإعادة قراءة وتقييم شخصية دينية فى عالمنا العربى قليلة، وأغلبها إما أن يضع الشخصية فى مصاف المرضى النفسيين الذين لا يقاس على أفعالهم دين ولا تصرفات سوية، وأحينا تُرسم الشخصية من باب العمالة المتخفية فى صورة صاحب خطاب دينى، أو قراءة الشخصية الدينية من منظور سياسى. وكل هذه كانت أعمالًا موجهة ذات طبيعة أيديولوجية منحازة لفكرة صاحبها أكثر منها أعمالًا إنسانية وشخصيات أدبية.
من هنا تأتى أهمية المنجز الفنى للكاتب محمد بركة فى روايته الجديدة «عرش على الماء»، حيث يقرأ الشخصية الرئيسية فى العمل من منظور غير مسبوق، وهو المنظور الإنسانى الخالص، فالبطل هنا هو إنسان مخلص لإيمانه، يتم تقديمه عبر فصول يتصدر كل منها ابتهال لله يرجوه فيه برجاء ينصره على ضعفه أو يخفف من ذنبه أو يزيده وصلا، أو كما يقول المؤمنون نص بين الخوف والرجاء، لكنه كرجل من العامة له تطلعاته الطموحة لصعود السلم الاجتماعى، وتحدث له دائما المفارقات التى تتقاطع مع قناعاته، فتوقعه فى الآثام التى لا تليق به كرجل دين، ولكنه أيضا يبرر لنفسه الخطيئة بالمغفرة «يا من جعلت الغيوم حجابك والسموات وردتك، أسألك أن تُنعم علىَّ بذنب يُبكينى حتى تبتل لِحيتى، فقد حرمنى دوام طاعتك من تذلل التائبين». هو إنسان وجد موهبته فى القدرة على الدعوة للدين، ولكن الآخرين هم من خلعوا عليه قداسة هو نفسه يعرف أنه لا يستحقها، وهو واع بأزمته بين لمعان عطايا الفتن وضعفه الإنسانى. يقول الراوى: «ابتلى سليمان بحب الصافنات الجياد وابتلانى بحب الشقراوات الناهدات»، هكذا يصرح البطل بأن حبه للتكوين الأنثوى أصيل فى داخله، وهو يرى أن النساء فواكه أو تكوين من فاكهة مشتهاة، والشهوة عنده ليست عابرة، بل أصيلة ومستقرة: «قلبى عود طرى يعصف به انسحاقى القديم أمام عينيها الخضراوين.
اللهب الذى اشتعل قبل ثلاثين سنة عاد حريقًا هائلًا يصادر على الأكسچين. أسعل دون صوت. أتمالك نفسى دون جدوى. تميد بى الأرض فأستند إلى جدار يعصمنى من السقوط. الصَّبُّ تَفْضَحُهُ عُيونُهُ / وتَنُمُّ عَنْ وَجْدٍ شُؤونِهِ». ولا تكف مشاعره عن الاشتعال مع كل امرأة جديدة تمر عليه، وهو يعتبر هذا الضعف فى تكوينه جزءا لا يفنى إلا بالموت ولا حيلة له فيه: «هل أذبح نساء الأرض أم أطلق على قلبى رصاصة من نوع (خارق حارق)، مدببة القمة، معبأة ببارود عديم الدخان؟، النساء النساء، لله در النساء!، سم فى نهر، وفتنة تنام تحت عمائم الدعاة». والمواقف الدالة على هذا الشغف الذى يصل لحد الهوس تملأ العمل، حتى إن الرجل يرى أن النساء هن اللواتى يقفن بينه وبين كامل إيمانه «لا أخاف الشيطان حين تتردد أنفاسه فى خلوتى، لكنى أرتعب من المرأة حين تكيد برقة وتصر بهدوء»، وبالقراءة المتأنية نجد أن الراوى، الذى هو البطل الداعية الذى يحكى قصته، لا ينكر فى نفسه إنسانيته وذكوريته ويدعى قداسة، فيصرح مبتهلا «يا من جعلت الرعد همسك، والبرق عصاك، أسألك بكل أدب وتوقير: لماذا خلقت قلبى شمعة واهنة تتقاذفها رياح النسوة؟». هو يدرك أنه بشر عادى، ويدرك أن المرأة هى الطعم الأشهى فى الفخ الذى يصيد الرجال، ألم توقع فاتنة شابة أباه المسن فى شركها وتعلل بصلة الرحم وحفظ النفس وذوى القربى من القيل والقال؟. فى بلادنا تتنوع السلطات، ولكل منها حظه الوافر فى الوجاهة الاجتماعية وقضاء الحاجات. والسلطة الدينية لها تأثيرها النابع من كونها سادنة الخطاب الروحى لمعتقدات الأمة، الأداة المفضلة للسياسيين يستخدمونها فى توجيه الجموع، ولهذا هم يدعمونها.
يقول الراوى: «أتبع النصيحة القديمة لحبيبتى، فأجعل لحيتى همزة وصل بين الفوضى والنظام»، والرجل أدرك من علاقاته المبكرة أنه مسلوب السلطة، مسلوب الحق، فشيخ الكتاب لا يضرب ابن العمدة، لكنه يضربه لأنه سأل عن سبب تسمية قريته باسمها الغريب «رملة العربان»، رغم أنه لا يمد لطبيعتها بصلة، وزاده وعيا رد فعل أبيه، حيث زاده ضربا أمام الشيخ، لكنه فى الخفاء قال له «بص يا ابنى، هذا الرجل لا ألبسه مداسًا فى رِجلى، كرشه واسع وطماع ويأكل مال النبى، لكنه فى النهاية سيدنا. ولغاية ما نقضى مصلحتنا منه وتختم القرآن، ربنا فوق وهو على الأرض». ويقول الراوى، فى موضع آخر: «أدركت مبكرًا أن للعِمة مع الجبة والقفطان تأثيرًا مذهلًا على المصريين، إذا أردتهم خاتمًا فى إصبعك فارتدِ لهم هذا الزى المستعار من بلاد تركب الأفيال. لا تتعب نفسك فى عمل شىء، فهم من سيتولون تنصيبك مندوب السماء لأهل الأرض. يكفى فقط أن تطلق لحية خفيفة، ثم تغمض عينيك وأنت تمرِّر حبات المسبحة بين أصابعك فيأتونك زحفًا» لهذا أخذ العهد على نفسه: «أن أكبر سريعًا لأصير اسمًا على مسمى، أعظم من ابن عزيز مصر، وأجلَّ من ابن العمدة، فذلك عهدى السرى وقسمى الذى لن أحنث به. يد على المصحف وأخرى تمسك بالمسدس، فى حضرة الأقدار». هو يعتز إذن بزيه كرجل دين، لأن هذا الذى هو يميزه «حين ارتديتُ الزى المنشود للمرة الأولى، ضربت موعدًا مع العظمة وأنا فى التاسعة من العمر». إنها بداية الزهو فى حدود ما يمكن أن يملك، هو لا يستطيع أن يكون رجل سياسة أو ما شابه، فهو ابن رجل فقير بعيد عن متناوله مثل هذه السلطات، لكن يمكنه أن يكون رجل دين، وقد شاهد تأثير الزى من أول يوم لبسه على الآخرين نساء كن أو رجالا: «أتهادى على الطريق وكأنى سأخرق الطرقة الزراعية أو أبلغ شجرة الصفصاف طولًا. أرى نظرات التبجيل فى عيون النسوة اللواتى يغسلن المواعين فى الترعة»، لهذا كان من السهل إيجاد التبريرات لانحرافاته.
يحتاج الإنسان بطبيعته إلى إشباع حاجاته وقضاء حاجات من يعول. والبطل هنا مدفوع بالحاجة، فهو يحتاج المال، مما يضطره للتنازل، فيقتسم مع رئيسه فى المعهد الدينى الأجر مقابل أن يكتب هو ويلقى الآخر الحلقة فى الإذاعة، ولا ينسى أمه التى باعت ما تملك ليلتحق بالتعليم، كما أن أولاده كثيرون ودخله صغير، كل هذا فى مقابل ما يرى من رفاهية الآخر بجعله «ضعيفًا أمام القصور الرخامية وريش النعام. شعرتُ بالضآلة أمام ابن الأعيان ودهمنى الانسحاق كلما مررت أمام السراى البيضاء الغامضة القابعة هناك على أطراف الناحية، وحان الآن وقت التعويض»، ولم لا وقد جاءته الفرصة ولا تتطلب منه سوى تنفيذ بعض أوامر لسياسات تبرر له وجودها وحسن نواياها. ستحج أمه المعدمة ويوسع على أبنائه ويتولى ابنه منصبا يتمناه «اللهم بحق الفيوضات الربانية التى تغمرنى بها، ما سر حكمتك فى أن يخطف قلبى بريق الذهب وتهفو نفسى اللوامة إلى ريش النعام؟». بوجه عام كان الكاتب واعيًا بأهمية الشكل المتوافق مع المضمون، فاختار لغة الابتهالات بما تحمل من بوح بالعذاب الداخلى الذى لا يتناسب مع الرضا الشكلى للشخصية، فالإنسان يستطيع أن يكذب على كل العالم، لكنه لا يستطيع أن يكذب على نفسه، لكن هل كان الكاتب يدين الشخصية لاستخدامها الدين للوصول لأغراضها، أم يتعاطف معها كمخلوق يحب الحياة ويقبل عليها ويريد أن يتمتع بها؟، أظن أن الكاتب لم يقدم جوابا شافيا يجعلك تصنفه رافضًا أو مبررًا، فهو عرض الأحداث وترك لنا مساحة نتأمل فيها لعلنا ننمى إنسانيتنا كل من مفهومه الخاص، لكن اختياره أن تحكى الشخصية عن نفسها كان موفقا ومناسبا لشخصية باطنها غير ظاهرها.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.