سيد الخمار يكتب: الشيخ الأزهرى «الصعيدى» شاهد الحق مقاوم الحملة الفرنسية


من حق كل أزهرى أن يفخر بقناديل المعرفة والتنوير.. من حق كل مصرى يذهب لباريس ويدخل السربون أن يسعد بكواكب الأزهر التى تركت لمصر كنزًا لا يغيب، فترى فى مكتبة باريس مؤلفات وتراث مولانا الشيخ المجدد عالم عصره مولانا «محمد عبده»، وتلميذه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور «مصطفى عبدالرازق».. كما كتب الدكتور (Pierre Magistretti)، أستاذ علم المصريات فى السربون.

وضمن ما سجل سيرة عظماء الأزهر الذين كانوا شهود الحق أثناء الثورة الفرنسية، ومن بينهم الشيخ محمد الصعيدى (١١١٠ ـ ١١٨٩ ه‍) أحد أشهر علماء الأزهر قبيل الحملة الفرنسية على مصر، وهو تلميذ الشيخ حسن الجبرتى (الكبير) من كبار علماء الأزهر الشريف، وكانت داره بحارة الصنادقية قِبلة جميع طالبى العلم.

وعن ذلك، يذكر المؤرخ الجبرتى ( الصغير): كان والدى إذا أتاه طالب علم، أكرمه ودعاه للإقامة عنده، وصار من جملة عياله، ومنهم من أقام عشرين عاما قياما ونياما، لا يتكلف من أمر معاشه حتى غسيل ثيابه من غير تعب أو ضجر.. وهذا ما حدث مع العالم الشيخ محمد الصعيدى الذى يُعرف عنه الشغف بالعلم، وكان أغلب وقته بين تلاميذه ومريديه متوفرا على درس العلم، لا يقصد أميرا أو حاكما ما لم ير مظلمة يجب عليه إبطالها.

كتب عنه المؤرخ الجبرتى يقول: ذهب فى يوم إلى الأمير على بك، وعلم الأمير من حاشيته بقدوم الشيخ، فقام كعادته يستقبله من خارج قصره، ثم دخل الشيخ والأمير وجلسا فى صدر المكان ثم جاءت حاشية الأمير وشغلته عن الشيخ، فبادره الشيخ يقول له: غضبك ورضاك سواء، بل غضبك خير من رضاك، وقام الشيخ، وقام الأمير يحاول إعادة الشيخ إلى مكانه معتذرا إليه، فرفض الشيخ.

الشيخ عبد المتعال الصعيدي

ومرت الأيام، وركب الشيخ فى ليلة من ليالى رمضان مع شيخه حسن الجبرتى الكبير، وقال له: اذهب بنا إلى على بك نسلم عليه، فقال الصعيدى: يا شيخنا أنا لا أدخل، وقال الجبرتى: لا بد من دخولك معى، فلم تسعه مخالفة شيخه، ودخلا على الأمير، وكانت مصادفة عجيبة أن الأمير مات فى تلك الليلة، فاستبشر أهله بالمغفرة له لزيارة الشيخين له.

كان مولد الشيخ الصعيدى ببنى عدى، وتلقى العلم بالأزهر على أيدى كبار علماء العصر وقتها،مثل: الديربى، والملوى، وإبراهيم شعيب، المالكى، والحنفى.. وغيرهم، فأفاد وأجاد وصار له تلامذة وتخرج على يديه أجيال من العلماء من بينهم: القلعى، والفرماوى، والدردير، والجناحى.

كان الشيخ المقاوم يوجه الأمير محمد بك أبوالذهب، يعظه ويذكره بالله ويخوفه من بطشه، وكان يمسك بيده ويقول: «ما أحسنهما لو سلمتا من عذاب جهنم»، وعندما جاء بونابرت واحتل مصر، كان الشيخ فى الطليعة، وقائد مقاومة أهالى الصعيد للحملة الفرنسية، وهو أول من رحب بدفع المصريين ضريبة الدم بالوجه القبلى، فقد كانت دعوات الصعيدى البطل كالنار تسرى فى كل دار.

فلم يكن الفرنسيون يحلمون بما سيوجههم فى الوجه القبلى، وقد وصفها بونابرت بحق إنها حرب حقيقية، تحطم فيها الأسطول الفرنسى، فحاول نابليون استمالة العلماء بإقامة الحفلات فى مختلف المناسبات، ومنها مهرجان وفاء النيل والمولد النبوى، كما قام بالاحتفال بعيد الجمهورية الأولى فى فرنسا وذلك بميدان الأزبكية، ربما كان يهدف من ورائها إخفاء أثر تحطم الأسطول على الحملة ومحاولة إدخال البهجة والسرور فى قلوب المصريين الذين قاطعوا تلك الاحتفالات بفتوى مولانا الشيخ الصعيدى الجسور.

فأصدر نابليون أمرًا إلى الجنرال «ديزيه» بالتوجه إلى الصعيد على رأس قوة مؤلفة من خمسة آلاف من المشاة والفرسان والمدفعية والمهندسين مزودين بالأسلحة والذخائر والمدافع الحديثة والسفن البحرية لجمع الضرائب أيضا بالقوة من الناس كما يفعل كل محتل فاشل، على حد قول مولانا الصعيدى، كما يروى الجبرتى (فى التراجم) على لسان الضابط جوزيف مارى مواريه.

فقد تحركت فرقة الجنرال ديزيه، وما لبثت أن وجدت نفسها فى مواجهة جيش قوامه من 6000 فارس، وهى أكبر فرقة مصرية وقتها، انقضوا ببسالة كبيرة مطلقين صيحات مرعبة، وقاموا بالهجوم على الجناح الأيمن بقيادة الكابتن فاليت التابع للواء 21، كما شنوا هجوما مماثلا فى ذات الوقت على مؤخرة القوات التابعة للواء 88، وهى فرقة جيدة باسلة، فكانت الهجمة خاطفة كالبرق، وبدأ الزحف من بنى سويف جنوبا، وقد أدهشت العدو كثرة السلاح الذى فى يد المصريين، وكان كل رجل أو امرأة يحمل ما يدفع به عن نفسه.

وجاء فى مذكرات جوزيف مارى وتكرر فى مراجعهم قصة غلام لم يزد عمره على 12 سنة، كانت مهمته أن يتسلل إلى المعسكر الفرنسى ويسحب بنادقهم فى خفة ومهارة ويذهب بها إلى قومه، وهو من تلاميذ مولانا الشيخ الصعيدى، وقد قبض عليه فى إحدى مغامراته وسأله القائد عن المحرضين، فقال إن الله القادر على كل شىء هو الذى أمره.

كان مولانا الشيخ الصعيدى خطيبًا بارعًا مناضلا شديد البأس، يتواصل كل ساعة مع قادة المقاومة فى كل مدن الصعيد، وكما يصف الجبرتى: «كانت ثورات الأهالى تأخذ شكلين أساسيين، إما الهجوم على الحامية الفرنسية المرابطة فى القرية أو المدينة، أو التربص بكتائب الفرنسيين المتوغلة فى الأقاليم والمارة بالقرى والمدن على الطريق». وكانت أسلحة الأهالى لا تتعدى البنادق والمسدسات والشوم والحراب، وكانوا يخرجون بالآلاف لمقاتلة الفرنسيين فى هذه المواجهات، وما إن تسمع القرى المجاورة بخروجهم حتى ترسل النجدة من الرجال والعتاد لنصرة إخوانهم المجاهدين.

وفى كثير من الأحيان، كانت الغلبة العسكرية للفرنسيين بفضل تفوقهم العسكرى وتنظيم صفوفهم، وكانت وسيلتهم فى ردع القرى هى إحراقها ونهبها وقتل وأسر مقاتليها، حتى تحولت قنا لنهر الدم، فقد شهدت قنا المعارك فى (سمهود فى 22 يناير 1799، ومعركة الرديسية فى 11 فبراير 1799، ومعركة أبو مناع فى 17 فبراير 1799، ومعركة إسنا فى 25 فبراير 1799، ومعركة البارود فى 3 مارس 1799، ومعركة قفط فى 8 مارس 1799، ومعركة أبنود من 8 إلى 10 مارس 1799، ومعركة بئر عنبر).



اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading