مي حمدي تكتب: كل الخير



من الناس من ينعم بطيب العيش، أو على الأقل الحد الأدنى منه، ومع ذلك يرتدي دائما عبوساً ثقيل على النفس، غير مستساغ. فإذا سألته عن أحواله أطرق برأسه وأطلق تنهيدة حارة قبل أن يجيبك بأسى. ولا أتحدث إطلاقا عن حالة عابرة، أو أمر طاريء، فكلنا قد يمر بهذه الفترات، ولكني أتحدث عن أناس – عافانا الله – شكائين بكائين، حتى وهم في أسعد أوقات حياتهم. فإذا مر بهم حدث سعيد، أوجدوا فيه “القطط الفاطسة” كي لا يضيعوا على أنفسهم فرصة الاستمتاع بالشكوى وتجسيد دور الضحية.

ولا أقصد أبدا إطلاق الأحكام، فالله أعلم بحال الجميع، وما قد يعانونه،  ولكن ما أريد  تسليط الضوء عليه هو نوع آخر من الأشخاص، الذين تعرف عن حياتهم ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة، ومع ذلك يستقبلونك بابتسامة مبهجة مجيبين عن سؤالك عنهم بأنهم في “زحام من النعم”، أو في “بحر من النعم”، وهو تعبير جميل ينم عن رضا وحمد محببين إلى الله وإلى النفس. وقد علمنا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمر المؤمن كله خير، وذلك في قوله: ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) .

يتحدث هؤلاء، فيأتي صوتهم محملاً بأزهار وفراشات، ما أن تسمعه قادماً من بعيد حتى تبتهج . فهم يثيرون التفاؤول والطاقة الإيجابية في المكان، يمنحون الابتسامات ولو خفي في قلوبهم ما خفي من الهموم. يتحدثون برضا، ويمنحون الأمل. هؤلاء الاشخاص في حد ذاتهم هم نعمة من نعم الله علينا، وهم واحة نستظل فيها  من متاعب الحياة لنتمكن من مواصلة السعي.

ومن الناس من يحمل في صدره ودا وفي لسانه ورداً، يتمتع بسلامة الصدر، فلا يستنكف أن يقول عن الجميل أنه جميل، وأن يذكر للمجتهد أنه مجتهد، وللمتميز أنه متميز، يفرح بوصول الأقران، ويصفق لنجاح الآخرين. يرى ما بداخل الناس من جمال، ويمكنه أن يغض الطرف عن عيوبهم التي يمكن أن تمر أو تُحتمل.  هؤلاء الناس، تشي نظرتهم للآخرين وحديثهم عنهم بجمال روحهم.  وهم ينشغلون بحالهم، فلا يعطلهم مراقبة حال الآخرين، ويعملون على تطوير  وتحسين أنفسهم، فلا يعنيهم الفرح في عثرات غيرهم، أو البكاء على اللبن المسكوب، أوتهويل الأمور وتقليب الهموم.  

ويحدثنا عالم النفس ومؤسس العلاج المعرفي السلوكي “ألبرت أليس” عن مجموعة قناعات غير منطقية وأفكار غير عقلانية، لا تتماشى مع الواقع، وقد تعيق تحقيق الأهداف، وتؤدي إلى الاضطرابات النفسية ، ولها مؤشران رئيسيان وهما: “المبالغة” أو “الكارثية”  في استقبال الصدمات ، و”الوجوب” بما يعني أن الأمور يجب أن تسير كما يريد الشخص بشكل مطلق. تتضمن تلك الأفكار أن الحياة لابد وأن تكون سهلة طول الوقت بدون أي نوع من عدم الراحة، وجميع الناس لابد أن يتصرفوا كيفما يراه الشخص صحيحا وإلا فإنهم سيئون ويستحقون العقاب ، وأن تعاسة الشخص تتعلق بالظروف الخارجية، ولا يستطيع تغيير شخصيته أو رد فعله. وعلم النفس يقول أن الحدث يتسبب فقط في نسبة قليلة من التأثير، أما النسبة الأكبر فتعتمد على رد فعل الشخص نفسه وكيفية استقباله للأمر.

ولا أدعي  المثالية أو “الآلية”، فأنا أحزن، وأغضب، وأقوم، وأسقط، وأرمم نفسي وروحي من جديد، ولكني أحاول دائما، وأجتهد لرؤية الجزء الإيجابي لأي حدث، ولعدم الاستسلام لأي شعور سلبي لفترة طويلة.  وأنا من الشخصيات التي تنزعج للأسف من المفاجآت أو التغيرات المفاجأة، ولكن ما يسعدني هو إدراكي لهذا الأمر، والعمل على محاولة تغييره، إلى جانب التسامح مع نفسي بقبول بعض الضيق، أو منح نفسي بعض الوقت حتى أتأقلم مع حدث مفاجيء، أو حتى يمر أمر مزعج،  بيقين من أن الله سيجعل كل شيء على ما يرام.

باختصار، لا يوجد إنسان لا يعاني، أو ليس لديه مشكلات، أو يعيش حياة مثالية باستمرار، أو يرتاح مع جميع الأشخاص في محيطه، وإنما لكل منا تحدياته وعقباته وعثراته.  فإذا عرفنا أن الدنيا دار ابتلاء وسعي واختبار، وأن النعيم الدائم الكامل في الجنة – رزقنا الله إياها –  وليس في الدنيا، لتعاملنا مع المشكلات بشكل مقبول لا مبالغة فيه، مدركين أن الرضا والتسليم لأمر الله وحمده وشكره، هو الخير، و كل الخير.




اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading