ترجمات.. «فن الهوى» لـ «أوفيد» إحدى الروائع المترجمة للدكتور ثروت عكاشة
الكتابة عن ثروت عكاشة تحتاج إلى صفحات، بل إلى كتب لما قدمه هذا الرجل لبلده وأمته والإنسانية.. هل نكتب عن الوزير، أم عن المثقف الموسوعى، أم عن المفكر صاحب الآفاق الأرحب والأوسع فى الفكر، أم عن الأديب والمترجم الذى قدم لنا العديد من الكتب والموسوعات الفنية، ما يقرب من 45 كتابًا مترجمًا تعكس اهتمامه وعشقه للثقافة والفنون فى شتى أشكالها وصورها من أشهرها ترجمة للشاعر جبران خليل جبران، وكتابنا هذا موضع هذا البحث والذى يحمل عنوان «فن الهوى » لـ «أوفيد».
ولكن قبل الخوض فى تفاصيل الكتاب، وجب علينا أن نسجل للتذكرة أن فارس الثقافة المصرية ثروت عكاشة – (مواليد القاهرة 1921 – 27 فبراير 2012) – لم يكن مثقفاً عادياً، كذلك لم يكن أيضاً مترجماً عادياً ولكنه فى الحالتين كان صاحب مشروع وله رؤية، لقد درس عكاشة الاحتياجات الثقافية لقارئه من المعارف الأجنبية التى ربما كانت تنقص المكتبة العربية، وقرر أن يتصدى بنفسه لإشباعها. خلال السطور التالية نعرض لإحدى روائعه الترجمية وهى «فن الهوى» لـ «أوفيد».
وتضمنت الترجمة مقدمة ثروت عكاشة وذكر فيها: «أوفيد» اسمه الكامل بوبليوس أوفيديوس ناسو، ولد سنة 43 قبل الميلاد وتوفى سنة 18 ميلادية بمنفاه فى بلدة توميس على البحر الأسود، أى أنه عاش اثنين وستين عاماً.. كان أبوه قد أعده ليشغل إحدى الوظائف السياسية فى الدولة، فانتقل إلى روما مع أخ له، يتلقيان العلم على أيدى الأساتذة المشهورين. وإذ أحس أوفيد فى قرارة نفسه أنه لم يولد إلا ليكون شاعراً، فقد اهتم بأن يقابل رجال الأدب فى روما وأن يتردد عليهم.
تولى «أوفيد» القضاء حيناً، ثم توفى والده مورثاً إياه ثروة استطاع بفضلها أن يتحرر من ربقة الوظيفة التى طالما ضاق بها وأن ينطلق فى الميدان الذى يهواه والذى أتاح له أن يخلف للإنسانية مجموعة من الأعمال الشعرية اتسمت بالأصالة والجزالة، واحتفظت برونقها على مر العصور. كان عهد الإمبراطور أوغسطس عهد تفاؤل وتفتح وانطلاق، شهد المجتمع الرومانى خلال هذا العهد كثرة من الخطباء من أمثال شيشرون والشعراء من أمثال فرجيل وهوراس وأوفيد، وأمست «الثقافة الرفيعة» بمثابة لحن شجى يرقص له مجتمع الملذات. كما ظهرت فى عهد أوغسطس حركة جياشة تهدف إلى تغيير مسار الحضارة وإحياء الماضى وأخلاقياته وتحويل الشعب الرومانى إلى مزارعين جادين بسطاء وجنود بواسل وساسة مثاليين. واتجهت هذه الحركة إلى نماذج العصور الماضية فى الفن واللغة والأدب. وكان أوغسطس على رأس هذه الحركة ويغذيها ويباركها، غير أن «أوفيد» لم يتجه لتأييد هذا الاتجاه، بل اندفع مؤيداً حركة الانطلاق والتفتح. وقد دفع «أوفيد» ثمن ذلك، حين أخرج على الناس كتابه «فن الهوى» فقد وجد فيه الإمبراطور مبرراً لنفيه إلى مدينة توميس المهجورة على شاطئ البحر الأسود بعيداً عن أهله وأصدقائه ومنتديات الفكر والأدب، إذ زعم أن «فن الهوى» دعوة إباحية، ومن ثم أمر بحرق كل نسخة. وقد نميل إلى الأخذ بما رواه بعض المؤرخين من أن «أوفيد» كانت له علاقة جسورة مع الأميرة جوليا حفيدة الإمبراطور، التى انغمست فى العديد من صلات العشق، مما انتهى بافتضاح أمرها، وأن هذه المغامرة الطائشة كانت السر الحقيقى وراء نفى الإمبراطور لـ«أوفيد»، فاتخذه من بين الكثرة الكثيرة من عشاقها كبشا للفداء، زاعماً أن محتويات الكتاب كان لها حظ كبير فى إفساد أخلاق حفيدته التى انتهى الأمر بنفيها هى الأخرى.
كتاب «فن الهوى» الذى ألفه أوفيد قبل ذلك ببضع سنين كان رسالة خاصة من «أوفيد» إلى قيصر أوغسطس يدين فيها المجتمع الانحلالى الذى رفض الإمبراطور أن يترك «أوفيد» لينعم فيه بدفء إحدى أميرات القصر. ولا شك أن الإمبراطور قد فهم ما رمى إليه «أوفيد» من فضح خفايا هذا المجتمع الأرستقراطى الزائف، ولم يكن نتاج ذلك إلا مزيداً من الغضب على هذا الشاعر العملاق.
ولا شك أن القارئ سيجد للوهلة الأولى أن الكتاب وأن مؤلفة يتناول الحب كطرفة من طرف الحياة ومتعة من متعها. كما أن أوفيد لا يتحرج من أن يعلن أنه لا يكتب عن إلهام من أبولو إله الشعر ولا من ربات الفنون، بل بوحى فينوس إله الهوى والمتعة. فلقد اختارته هذه الربة الخليعة وصياً على ابنها إيروس (كيوبيد) وأستاذا خاصاً به، وأنه قد رحب بقبول هذه المهمة لينتقم من كيوبيد الذى يختار العشاق ويربط بينهم بالسهام التى يسددها إلى صدورهم، فقد سبق لكيوبيد أن مزق قلب «أوفيد» بأحد سهامه فأرداه عاشقاً مدلهاً، وها هى الفرصة تواتيه لينقذ العشاق من طريق العذاب الروحى منتقلاً بهم إلى طريق المتع الجسدية.
يبدأ أوفيد عرضه ملخصاً ويتضمن الكتاب ثلاثة كتب، الكتاب الأول يعلم مريده كيف يسعى ليحظى بقلب معشوقته فى ميادين الصيد المواتية مبصراً إياه بأن حبه المنشود لن يهبط عليه من السماء دون جهد، وعليه أن يعرف كيف يتجول منقباً فى اتجاه روما التى يمكن أن تمده بنساء من مختلف الأنواع. ولقد وجد فى المسرح (الملعب) مكاناً مثالياً يسعى فيه إلى ضالته مستشهداً فى ذلك بحكاية رومولوس مؤسس روما الذى كان قد خطط لاختطاف النساء (السابينات) بينما يشهدن مسرحه البدائى.
وينتقل أوفيد فى الكتاب الثانى إلى معالجة موضوع إخضاع المحبوبة للاحتفاظ بها ما أمكن ذلك. كما نراه فى الكتاب الثانى أقل إثارة من الكتاب الأول، وإن كان أرق منه وأشد اتساماً بالذاتية. ففيه يوصى الشاعر مريده بألا يحرص على المتعة العابرة حرصه على أن تمتد الصلة الغرامية زمناً طويلا. إنه ينصحه بالعناية عند اختيار الشريكة ويحذره من الانزلاق فى تهور إلى حب فتاة يلقاها عرضاً فى وليمة، فما أكثر ما يزيف النبيذ والنور الخافت الحكم على صفات المرأة وسماتها. وإذا أمعنا النظر فيما أسدى من نصائح فى كتابه الثانى نجدها فى جوهرها تحث على الاتزان والتواضع والمثابرة، لكنه يخفى وراء هذا الستار غرضه الذى يعلنه بعد ذلك صراحة، إذ يقول إن «الحب حرب» مغلفاً قصده برقة تبدو طبيعية تلقائية بينما هى تضمر دهاء وسخرية لاذعة.
وفى الكتاب الثالث يكف أوفيد عن توجيه أترابه من الرجال ملتفتاً إلى النساء يسدى إليهم النصح باقتطاف ورود الشباب فى أوانها مثلما فعل رونسار فى القرن السادس عشر فى «سونيتاته من أجل هيلين». وهو فى هذا الكتاب يناقض أسلوبه فى الكتابين السابقين دامغاً الرجال بالعبث.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.