في روايته الجديدة «أوديب في الطائرة».. محمد سلماوي يحلق على أجنحة الأسطورة

فى روايته الجديدة، القصيرة، التى تحمل اسم «أوديب فى الطائرة»، الصادرة عن دار الكرمة، يتعامل مؤلفها محمد سلماوى مع القراء، والنقاد، وحتى الناشر!!، بنهج المتنبى: «أنام ملء جفونى عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم»، فالرواية تحتمل قراءات بلا عدد، وتحتمل تأويلات شتى، قد يربطها أو لا يربطها رابط، حسب خلفية وطبيعة كل قارئ.
سلماوى الحكيم والهادئ، صاحب التاريخ الإبداعى الحافل، يمارس فى هذه الرواية شقاوة كتابية مغامرة، لا تقارن بأعماله السابقة، على كثرة ما كان فيها من ابتكارات فى القالب والمضمون والسرد، فها هنا يمتزج الأسطورى بالفانتازى بالميتافيزيقى بالواقعى، والسحرى، فى خلطة، يعد أعجب ما فيها أنها تبدو فى لحظة عملًا تحضيريًا لكتاب كبير قادم، وفى أخرى تبدو رسالة الكاتب الأخيرة التامة، من فرط إخلاصها المجرد، والصوفى ربما، والخبير، حول قضية الحرية.
تتحدث الرواية عن أوديب، ملك طيبة، مدينة المجد والجمال والقوة والعمران، التى تقع فى اليونان (وليس فى مصر!!)، وكيف أنه كان صاحب الضربة الأولى الحاسمة، بسيفه ورمحه، فى الحرب ضد إسبرطة الطامعة، وأنه هزم الوحش الرابض على باب المدينة، (نفى هو نفسه فى لحظات الأزمة لزوجته وابنتيه وجود هذا الوحش)، وقتل قطاع الطرق، وكيف أنه اعتلى سدة العرش على المقعد الذى كان يشغله من قيل له فيما بعد أنه والده.
وأنه تزوج من قيل له فيما بعد إنها أمه، بعد ان قتل، دون أن يدرى، «والده»، ولكنه ظل يستنكر قتل الأب كما يستنكر أنه تزوج أمه، وظل على عاطفته تجاهها حتى ماتت كمدا من جراء هذا الكشف.. الغريب فى الرواية أن أوديب ليس فقط لم يفقأ عينيه، كما فى الأسطورة الأصلية، بل ولم يبد عليه أى أثر ولم تناوشه أى لحظة شك فى أن يكون ما يستنكره قد حدث بالفعل، أى زواجه بأمه.
وقد حلت اللعنة فى النهاية على طيبة، وعبث بها الطاعون، واجتاحها الغضب، وطال استمرار اشتعال الشارع، وبعد مكابرة من الملك المتفاخر بتاريخه، تم الاحتكام إلى زيوس، كبير الآلهة، لمعرفة سبب اللعنة ومعاقبته، حيث صرح الكبير فى المعبد الكبير بصوت مهيب، بأن السبب هو أوديب، وبالتالى طلب منه قائد الجيش، شقيق زوجته، ورئيس مجلس الشيوخ، أن يتنازل عن العرش ويركب الطائرة لينتقل إلى أى بلد إلى أن تهدأ الحال فرفض، وتم إخباره بأن البديل هو السجن، ولم يقتنع بذلك إلا بعد أن حاصره عجوز أعمى محنك، فى بدء الأزمة وختامها، عجوز طالما اعتبره أوديب دجالًا، وأقنعه بأنه لا حل عادل آخر، وبعد أن ركب، ظل حتى آخر لحظة يرفض الهبوط من الطائرة، ثم هبط ودخل السجن، ومات بعد أيام.
فى المسار الموازى لحكاية الملك، ثمة مصور، ثائر رومانسى، خريج متفوق من معهد السينما، ولم يتم تعيينه معيدًا، بسبب الكوسة، فعمل فى تصوير الأفلام التسجيلية التى ترصد حراك الشعب، ويتم سجنه، وتحاول حبيبته المثالية هى الأخرى، هيباتيا (نفس اسم شهيدة المعرفة فى الإسكندرية)، إكمال فيلمه فى غيابه، إلى أن يخرج، وينخرطان فى النضال بالميدان الكبير، ويضيفان إلى نهاية الفيلم مشهد خلع الملك.
واحتفالات الجماهير بنصرها، وقد ساندهما فى مراحل مونتاج وتحضير الفيلم للعرض، بل وفى وزواجهما، صاحب استوديو كان ثائرًا قديمًا، وله قصة مع زوجته التى توفيت بعد أن طلبت منه الطلاق، لخلافات عويصة لا يمر بمثلها إلا هذا النوع من البشر أصحاب الخيارات السياسية الكبيرة، عند مفارق طرق معينة، (هذه الصفحات بها أعمق جانب تحليلى فى الرواية، ما يشير إلى أن ثمة خلفية ما لهذا الجزء لدى المؤلف لا أستطيع تخمينها)، وقد شارك الفيلم بسبب دعم الثائر القديم ومهنية المصور الشاب الرفيعة، وحماس حبيبته، فى مهرجان دولى للسينما التسجيلية باستكهولم.
أسهل تأويل للرواية هو أن الكاتب يقصد مبارك بحديثه عن أوديب، مبارك الذى رفض أن يترك مصر، ورفض النزول من الطائرة فى وقت ما بعد ٢٠١١، ويقصد بالأب الذى اشتعلت فى عهده الفتن الطائفية، كما تقول الرواية، أنور السادات، وأن الرواية تتحدث عن إسرائيل الطامعة (إسبرطة)، وتقصد الضربة الجوية فى حرب أكتوبر، وثورة الشباب فى ميدان التحرير.
لكن ظنى أن سلماوى الذى أدرك مبكرًا فى ٢٠١٠ مفعول ما يسمى بـ أجنحة الفراشة عند الاقتصاديين، أى الحدث البسيط الذى يمكن أن تنجم عنه أمور مدمرة أو تغييرات ضخمة، وتنبأ بثورة يناير ٢٠١١، يريد هنا أن يؤكد جدارته باستشراف المستقبل مرة أخرى.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.