أكرم محمد يكتب: «تل أبيب.. الإسكندرية» التخييل كخطاب فلسفى للتأريخ
تقطن عتبة وافتتاحية رواية «تل أبيب- الإسكندرية»، للكاتب المصرى عماد مدين، والصادرة عن دار «العين»، ممارسة لفعل الذاكرة، بشاعرية خاصة تليق بإعادة بناء مفهوم إنسانى كالذاكرة، وبمشهدية سينمائية وأجواء سردية متوترة تسعى لتقديم علاقات اجتماعية وإنسانية تطرح بنية الشخصيات، التى تمثل رمزية خاصة لسياسة الرؤية الإسرائيلية والغربية لمصر والعرب، فيقدم عماد مدين علاقة إنسانية لزوجين ولا تحترم الزوجة زوجها لكونه مهاجراً من مصر لإسرائيل.
وتزدريه عندما ينطق بلهجة مصرية، مما يضفى ثنائية أخرى على الثنائية المعتادة للرجل والمرأة، والزوج والزوجة، حيث المصرى والإسرائيلى، وحيث الإنسان والمجتمع، وحيث تتخلل الذاكرة تلك الثنائية، كمفهوم إنسانى شاعرى ينفى ثنائية العلاقة الأولى.. تطرح العتبة خطابا فلسفياً وسياسياً سيستمر فى باقى النص، كسؤال النص عن العنصرية وعلاقتها بمفهوم الوطن، وهو ما يمارسه خطاب النص بين ثنائية الخاص والعام، حيث تعرية أعضاء الحركة الصهيونية.
وحيث تساؤل عام عن مفهوم العنصرية وعلاقة الإنسان بالوطن والمجتمع، وكذلك إعادة بناء مفهوم الذاكرة.. ثنائية الخاص والعام تمارس هنا بين فعل التخييل والتأريخ، ووجود خطاب فلسفى وإنسانى بالنص وتواجد تعرية لتاريخ الحركة الصهيونية، فيقدم ضمن البناء الدرامى المتكئ على مروية تشحذ من الذاكرة، رغم سردية الراوى العليم، خيانة «سادا» لوطنه ولمحبوبته «فريدة»، فتتجلى ثنائية الخاص والعام، بين تعريف الخيانة، ككل.
وعلاقة الإنسان بالوطن والعشق، وبين تعرية تأريخية لجرائم أعضاء الصهيونية، وخيانتهم، كذلك تتجلى ثنائية الخاص والعام فى الولوج إلى مفهوم الذاكرة، أيضاً، عند الشحذ من ذاكرة «صمويل» فى مشهد له وهو يلعب رياضة قتالية ضد طفل صعيدى مصرى فقير، وسط أجواء تدعم «صمويل»، فاز الطفل المصرى وأهدر ضلعًا لـ«صمويل».. ذلك المشهد يطرح تاريخاً موازياً رمزيًا يمارس فعل التعرية.
كما يمارس تعريف الطبقية، والسلطة، فيقوم باستنطاق عام للواقع والوقائع، بعمليتين إبداعيتين هما الترميز والتخييل، وبسؤال ملح على النص هو جدوى الذاكرة وتأثيرها، ليستكمل تقديم تلك الثنائية، حيث الخاص والعام.. كذلك يمارس الفضاء المكانى أحجية زمنية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً باللعبة السردية المتشظية فى بنيتها، متكأة على الذاكرة، وتقترن بطرح دلالة لمعنى عام للهوية، التى يندرج تحتها معنى خاص للوطن، فيغدو الفضاء المكانى مسرحاً لاستنطاق محاكاة تأريخية، ولاستقراء دلالات عدة كائنة بثنائية الخاص والعام عن معنى الهوية ومفهوم الوطن والمجتمع.
تصل الشخصية «داسا»، إلى الإسكندرية بعد طلبها من الرئيس السابق «السادات» تلك الزيارة أثناء زيارته لإسرائيل، فتنضح علاقة الإنسان بالوطن والهوية كسؤال فلسفى ملح يقترن بفعل الذاكرة ويؤاخى بالعشق، فتبدأ شاعرية جغرافية خاصة عن الوطن وعلاقة الإنسان به، وتمثل السيمائية المتمثلة فى تمثال سعد زغلول، الذى تقطن الشخصية بالقرب منه فى زيارتها للإسكندرية عام ١٩٧٧، مفهوم الوطن والحرية، كما تنجلى السيمائية عن رمزها فى مشهد روائى ميلودرامى يربضه مفترق طرق وطرح لمفهوم الفراق والعشق، فيشهد سعد زغلول قرار «داسا» الأخير بخيانة مصر وفراق محبوبته «فريدة».
وكأنه يمثل معه ثنائية تتحد فى دينامية مع المشهد، ككل، عن خيانة «داسا» لمفهومين إنسانيين حرجين وشاعريين هو الوطن والهوية، كما يشهد التمثال القدرية المهيمنة على المشهد، وشخوص النص، ليس فقط كسؤال فنى، بل أيضاً كسؤال إنسانى فلسفى ودافع فنى لشخوص النص.. القدرية بهيمنتها تلك تلائم البناء الدرامى المتشعب، الخاضع لألاعيب سردية تخص الذاكرة، والنص، الكائن به كتابة تقريرية لا تنفى الإبداعية والخطاب الفلسفى النابع من ممارسة التأريخ، والكتابة التسجيلية التوثيقية لعملية «سوزانا» فى جزء كبير من النص.
لكن هنا المروية التاريخية تربض سردية مغايرة، فيتناول النص الجانب الإنسانى للبناء الدرامى الخاص بالعملية والتأريخ، ككل، فينبثق منه ذلك الخطاب الفلسفى.. القدرية هنا تمارس دورها فى الخطاب الفلسفى، والبناء الدرامى بشدة، فتشهد شخوص النص سؤال القدر، مثل «نينو»، التى يقطن جانبها السردى مشهد مركزى للنص، يتكرر أكثر من مرة فى النص، «وضعت إحدى قدميها على جدار الشرفة وأرجحت الأخرى فى الهواء قبل أن تندفع بجسدها فى وضع أقرب للطيران.
خذلتها أجنحتها التى لم تنبت بعد، طول المسافة وعدم قدرتها على الطيران جعلتها تسقط مرتطمةً على الأرض»، ذلك المشهد المُحتل بالبناء والتشكيل القصصى يمثل أهميتين فى محورين، أولهم مدلوله كسؤال لمعنى عام وواضح عن الهروب، والحرية، من كل معانى الخوف والقيود، وأولهم القدرية والهوية، والمحور الثانى هو ما يقدمه المشهد من تفكيك نفسى ترميزى لشخصية «نينو»، وبالتالى لباقى شخوص النص من أعضاء الجمعية الصهيونية القائمين على الأعمال التخريبية.
مع بداية الزيارة يطرح الكاتب تقنية التشويق، أحد أسس البنية الروائية لهذا النص، والمُقدَمة بداية من الإفتتاحية.. التشويق غير المنفى بفعل التشظى، الممارس فى الأجزاء الأولى من النص بشدة، والمستمر فى باقى النص كأساس لبنيته الروائية، ذلك التشظى المندلع من ألاعيب الذاكرة السردية، المرتبطة كليًا بالزمن، ليس فقط كخلفية تاريخية، بل كسؤال عام عن ذاكرة الأشياء والإنسان، وتأثير الزمن فيه.
هنا يُمارس الفن فى براثن الفن، كعنصر يقطن البنية الروائية، دوراً موازياً للخطاب الفلسفى، فيوطده ويؤازره، فيطرح استخدام الأعمال الفنية فى النص ممارسة موازية من محورين، أولهم توطيد الخطاب الفلسفى، وثانيهما محاكاة الواقع كخلفية تأريخية، باستنطاق كلام من الكلام، وفن من الأجواء الاجتماعية، فيكتب بالنص «منولوج» لإسماعيل يس، يتحد كخطاب فلسفى مواز عن علاقة الإنسان بالسعادة، ويتجلى المونولوج مع شخصية يهودية بائسى تنزح لنيل سعادتها، وتسعى إليها، كذلك تظهر «شادية» كخلفية للعشق، وكمحاكاة للفضاء التاريخى، وكذلك تتساءل «نينو» عن كتاب موضوعه أمريكا، لتقدم رمزاً موازياً للاحتلال الأمريكى والإسرائيلى.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.