فى ذكرى رحيله.. قراءة فى كتاب «مشرفة بين الذرة والذروة»

فى عام 1980 صدر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» كتاب «مُشَرّفة بين الذرة والذروة» لمؤلفه د. محمد محمد الجوادى (1958- 2023)، وهو مفكر مصرى معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسى والتنموى. شغل وظيفة أستاذ أمراض القلب بجامعة الزقازيق. كان عضواً بمجمع اللغة العربية، والمجمع العلمى المصرى، والمجمع المصرى للثقافة العلمية، واتحاد كُتاب مصر. وعن هذا الكتاب حصل على جائزة الدولة التشجيعية فى «أدب التراجم» سنة 1983. والكتاب يستعرض الأعمال الرائعة التى قام بها د. على مصطفى مُشَرفة (1898- 1950) حتى كان له السبق والنبوغ والريادة. فالكتاب عبارة عن ملحمة حية لعبقرية حية.
طوال فترة دراسته بالتعليم ما قبل الجامعى كان متفوقاً بين أقرانه، وفى سنة 1914 حصل على درجة البكالوريا (الثانوية العامة حالياً)، وكان ترتيبه الثانى على طلبة القطر المصرى، فآثر أن يلتحق بمدرسة المُعلمين العليا، وكانت الدراسة فيها ثلاث سنوات قضاها فى موقع الأولية إلى أن حصل على دبلومها سنة 1917، وكان ترتيبه الثانى على الدبلوم. وكانت أوليته تؤهله للدراسة بإنجلترا للاستزادة من العلم، فلم يتوان فى الإسراع إلى منهل العلم الذى طالما تاقت نفسه إليه.
سافر إلى إنجلترا فى سنة 1917 والتحق بكلية «نوتنجهام» وأخذ يدرس من أجل الحصول على درجة البكالوريوس فى الرياضيات، وكان الحصول عليها يستأهل أربع سنوات من الدراسة اختصرها إلى ثلاث سنوات فقط، فحصل على درجة البكالوريوس فى الرياضيات مع مرتبة الشرف من جامعة لندن فى خريف 1920.
فى سنة 1919 كانت الثورة فى مصر قد تأججت ضد المستعمر الإنجليزى، عندئذ أحس «مُشَرفة» بحرج موقفه وهو فى بلد أعدائه، ففكر فى العودة، فكتب إلى صديقه محمود فهمى النُقراشى يقول له إنه يريد أن يعود إلى مصر ليُشارك فى الثورة. فأرسل له النُقراشى يقول له: (نحن نحتاج لك عالماً أكثر مما نحتاج لك ثائراً. أكمل دراستك. ويمكنك أن تخدم مصر فى جامعات إنجلترا أكثر مما تخدمها فى شوارع مصر). فألف جمعية للمناقشات فى الجامعة الملكية، وأصبح يحاضر فيها، مدافعاً عن حق مصر فى الحرية والاستقلال، مطالباً بالإفراج عن زعيم الثورة سعد زغلول، ثم انتُخب رئيساً للجمعية، فكان أول مصرى يُنتخب رئيساً لجمعية فى جامعة إنجليزية.

فى فبراير 1923 حصل د. مُشَرفة على درجة الدكتوراة فى فلسفة العلوم PhD فى أقصر مدة تسمح بها قوانين الجامعة، وهكذا أصبح د. مُشَرفة عضواً فى الجمعية الملكية البريطانية، ونشرت له المجلات العلمية المتخصصة عدداً من الأبحاث المتميزة فى «نظرية الكم»، وأخذ يُحاضر العلماء من أعضاء الجمعية الملكية يوماً بعد يوم، ولم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
وفى 21 من نوفمبر سنة 1923 عاد إلى مصر، فعمل مدرساً بمدرسة المعلمين العُليا طيلة الفترة الباقية من ذلك العام الدراسى، وكانت مثل هذه الأستاذية فى مدرسة المعلمين العُليا وقتذاك مكانة رفيعة لا يتبوأها إلا العلماء الأجلاء. على أن آمال د. مُشَرفة فى الحصول على درجة الدكتوراة فى العلوم DSC ظلت تلح عليه منذ عودته، وأخذ يسلك الطرق التى ظنها تؤدى به إلى تحقيق أمله حتى استطاع الحصول على ترخيص بالسفر خلال الإجازة الصيفية، وسافر د. مُشَرفة مع حلول الصيف بموافقة الحكومة، وكان السفر على حسابه الخاص، على أن تصرف له الحكومة نفقات هذا السفر، وعشرين جنيهاً فوقها إذا ما حصل على درجة الدكتوراة فى العلوم.
وواصل د. مُشَرفة ليله بنهاره فى صيف سنة 1923 حتى انتهى من إعداد رسالة دكتوراة بالعلوم فى شهر سبتمبر، فعرضها على أستاذه العالِم الجليل «بروفيسور ريتشاردسون»، ولم تكن جامعة لندن تسمح بدخول امتحان هذه الدرجة إلا بعد مرور عامين على الأقل على حصول الطالب على درجة دكتوراة الفلسفة فى العلوم. وبعد محاولات علمية جادة وافق مجلس إدارة جامعة لندن فى 21 نوفمبر 1923 للدكتور مُشَرفة على أن يؤدى هذا الامتحان بصفة استثنائية فى 24 يناير سنة 1924. أدى د. مُشَرفة الامتحان فى الموعد المحدد، فلما انتهى منه حتى عاد إلى مصر فى 24 فبراير 1924. وفى مارس 1924 أعلنت نتيجة الامتحان، وهكذا أصبح د. مُشَرفة العالِم الحادى عشر فى العالم الذى حصل على درجة الدكتوراة فى العلوم، وأول عالِم مصرى يحصل على هذه المكانة العلمية الرفيعة.
ولما أنشأت الجامعة المصرية سنة 1925 تقدم د. مُشَرفة بأوراقه لوظيفة أستاذ فى كلية العلوم، فعينته الجامعة أستاذاً مساعداً، ورفضت تعيينه فى وظيفة أستاذ، متعللة بأن سنه دون الثلاثين. قبل د. مُشَرفة التعيين فى وظيفة «أستاذ مساعد» على مضض. وهنا قال د. «بينجام»، عميد كلية العلوم، للدكتور مُشَرفة: (كيف أكون عميدك وأنت تحمل من الدرجات العلمية ما لا أحمله؟)، ورد عليه د. مُشَرفة فى أسى: (لأن حكومتى هى التى تريد ذلك)!!. وعندما أثير هذا الموضوع فى البرلمان، وكان سعد زغلول رئيساً للبرلمان، فحمّل على الحكومة وقال: (كيف تُكرمه إنجلترا ولا نُكرّمه نحن؟). وكانت الجامعة المصرية قد بعثت تستشير جامعة لندن فيمن يصلح لتولى منصب أستاذ الرياضيات التطبيقية فى كلية العلوم؟، فأشارت جامعة لندن للدكتور مُشَرفة- واضطرت وزارة المعارف إلى إنصاف د. مُشَرفة وتعيينه أستاذاً للرياضيات التطبيقية فى كلية العلوم سنة 1926، فكان بذلك أول أستاذ مصرى فى كلية العلوم ولم يتجاوز الثمانية والعشرين من عمره.
عمل د. مُشَرفة على الارتقاء بالمستوى العلمى للجامعة المصرية وعُنى بوضع التقاليد الجامعية الكفيلة بتحقيق هدفه فى أن تضارع الجامعة المصرية مثيلاتها فى الخارج. وكان يؤمن بأن المعيدين هم البذور التى تنميها الجامعة لإنبات أساتذة صالحين، ومن هنا كان حرصه يوماً بعد يوم على انتقاء هذه البذور حتى تخرج للجامعة الثمر الصالح.
فى عام 1936 مُنحت البكوية للدكتور على مصطفى مُشَرفة، ولم يتلق نبأ منحه الباشوية بالسعادة التى يتلقى بها الباشوات هذا النبأ. كان حين مُنح البكوية يستقل القطار عائداً من الصعيد بعد قضاء إجازة نصف العام، ففوجئ بطلبته يهرولون إليه يهنئونه بالباشوية، وهو جالس على مقعده من القطار لم يقرأ بعد صُحف الصباح التى حملت النبأ!. فلما وصل القاهرة وخرج إلى رصيف المحطة استقبله أخوه د. عطية وهنأه بالباشوية، فغضب مُشرفة من أخيه، ولما استقر به المقام فى الجامعة أتته أفواج الأساتذة يهنئونه باللقب، فكان يعجب لهم، مستنكراً عليهم أن يهنئوا دكتوراً بالباشوية كأن الباشوية أعظم من الدكتوراة!.
ثم إن د. مُشَرفة لم يذهب إلى السراى ليقدم الشكر على الإنعام الملكى- كما هى العادة فى مثل هذه الأمور.
تمتع د. مشرفة بثقافة علمية غزيرة، ففى عام 1937 أجرى بحثه المشهور على السلم الموسيقى المصرى ونشره فى كبرى الدوريات العالمية، ثم فى مجلة الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية. وفى ذات العام نشر مُشَرفة بحثاً رائعاً عن معادلة «مكسويل» والسرعة المتغيرة للضوء. آمن مُشَرفة إيماناً عميقاً بالعلم، وبأهمية تطبيقه فى الحياة، وكانت هذه هى الفكرة الغالبة على أعماله ومؤلفاته.
كما أنه أسهم بنشاط وافر فى النشاط الاجتماعى البناء، فكان عضواً فى مجلس إدارة «مشروع القرى» لنشل القرية المصرية من بؤسها الحاضر، كما كان واحداً من الذين أسسوا «جماعة إنقاذ الطفولة المشردة»، وواحداً من الذين أنجحوا بجهودهم البناءة والمتواصلة فى مشروع «القرش» لدعم الصناعات المصرية، وأقاموا مصنع الطرابيش.
وفى 16 يناير 1950 مات د. على مصطفى مُشَرفة لأنه أشع وتوهج أكثر مما يجب، فاستنفد ما فى مصباحه من الزيت. عاش غنياً فى كل نواحى حياته، وكان غنياً عن المال لا غنياً بالمال، لأن المال هو أصل كل الشرور. رحم الله د. على مصطفى مُشَرفة، الأستاذ الجامعى الحقيقى، والأيقونة الرائعة للباحث المدقق والمنادى بالحق، متمثلاً بقول القديس يوحنا المعمدان أو النبى يحيى حينما رفض فعلاً مخالفاً لهيرودس الملك الذى أمر بقطع رأسه، فقيل عن هذا القديس والنبى الرائع: (الرجل الذى آثر أن يكون بلا رأس من أن يكون بلا ضمير). فلتدم فينا الذكرى العطرة للدكتور على مصطفى مُشَرّفة.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.