الأديب والناقد التونسى طارق العمراوى يكتب: «كفارة الحبس للنساء».. جدلية المشاهد والشواهد
تتراكم التجربة السردية للكاتبة حبيبة محرزى كميًا وكيفيًا، فقد أصدرت رواية «الوزر» سنة 2000، ثم مجموعة قصصية «قرار أخرس» سنة 2020، ورواية «سبع لفتات» سنة 2021، وأخيرًا رواية «كفارة الحبس للنساء» 2022 كرواية شغلت العديد من القراء والنقاد المتابعين للشأن الثقافى فى مستوى الكتابات السردية، وقد ألحقت الرواية بالعديد من القراءات التى استطاعت النفاذ إلى أغوار هذا النص الروائى النوعى من داخل وخارج البلاد التونسية، وعلى صفحات المجلات والجرائد الورقية والإلكترونية بتونس والوطن العربى.
وأمام العديد من الإشكاليات التى قدمتها الكاتبة للطرح ولمزيد من إعمال العقل النقدى والنقد الاجتماعى لعديد من الآفات التى تهدد هذا المجتمع وتنزع إلى المس من مكتسباته التاريخية، ولعل المرأة من أهم المكاسب، ولكن من أهم مناطق القصف والهدم أيضا ورواية «كفارة الحبس للنساء» حملتها الكاتبة بأسلوب طريف ومميز راعى ميكانزمات البناء السردى فى الرواية العربية العديد من الإشكاليات الحياتية والعقائدية والاجتماعية والسياسية والفنية، قدمت هذه المشاهد والشواهد داخل رؤية محكومة بالانتصار للفكر الحر والنقدى، فكر تقدمى يتعارض مع الانتهازية والوصولية ويعادى الفكر الظلامى.
هذه المشاهد والشواهد قدمت للقارئ لتفقده توازنه لينخرط فى القضايا والمسائل التى أرهقتها، وحاولت بسطها، ولقد اخترت ولوج هذه الثنائية بالعمارة والمعمار والتعمير والمعالم كمدخل لعرض ما قدمته الكاتبة فى روايتها، فخلف أسوار العمارة والمعمار والمعالم حياة يتقاسمها متساكنوها، محكومين بعادات وتقاليد وتصورات للحياة والعيش المشترك.
تعددت الأماكن المغلفة والمفتوحة وداخل المدن وخارجها، بدءًا بالسجن، هذا العالم المغلق الذى يحتوى على حياة أخرى غير معهودة لزائريه بعلاقاته وأفق التعامل فيما بين نزلائه وسجانيهم وبجهاز مفاهيمى خاص، والذى استطاعت الكاتبة أن تجمع هذه المصطلحات وأن تقدمها تباعا، لكن داخل نسق يخدم مسار الرواية،
فهذا المعلم المغلق تحكمه ديناميكية معينة تنطلق من البناء العالى وشبابيكه الحديدية وغرفه وسيلونه والآرية التابعة له، لتتوزع داخله العلاقات بين السجينات والسجانات أولا، والنعوت الخاصة الضاربة بالحائط أبسط حقوق الإنسان، كتعرية السجينة فى أول مصافحة لها بالمكان قبل التحاقها بسريرها، عد السجينات وكأنهن غنم وشياه حتى المصور أتعس من السجناء لتلخص هذا الوضع قائلة ص 46 «يهمدن فى أسرتهن الحديدية، يلفهن الحزن والأسى والخوف من مستقبل مظلم بين قضبان سجن فيه كل فظاعات الجلد النفسى والدمار الذى يشل كل طاقاتها ويصادر كل أمل لها فى انفراج نسبى».
وثانى الأماكن «القرية» التى احتوت العديد من فصول الرواية كذاكرة وذكريات وكأحداث مباشرة خاضها أبطال وبطلات الرواية داخل حيز معرفى تقليدى محكوم بعادات وتصرفات موروثة مازالت تفعل فيهم وتوجههم كاعتبار الفتيات أكوام لحم ووضعية المرأة الدونية هناك وعندما تكلمت البطلة فى ريف لم يتعود فيه نقاش المرأة للرجل فى أى وقت أو لحظة، استغربوا تدخلها وحديثها مع حياة جنسية خاصة عالم البكارة وما يحوم حولها من هالة وقدسية الحب المحرم وتبعاته التى تصل حد القتل، إذ تقول الكاتبة ص157 «فشددوا عليها الحراسة إلى أن فاجأوها ذات ليلة وهى بين أحضانه فى ضيعة الزيتون فذبحوها كما تذبح الشاة»، والطب الشعبى والسحر وأدواته عالم الزردة وشيوخ الدجل الذين يغتصبون العذارى، كما حددت العمارة الوضع الطبقى فى الريف الذى تسكنه البطلة عبر المقارنة والثنائيات التى حكمت وميزت النص الروائى لحبيبة محرزى، فقارنت بين منزلهم ومنزل العمدة فى الغرف والأفرشة والأوانى.
واستطاعت الكاتبة أن تزلزل كل هذه الأعراف عن طريق بطلتها وأختها، عبر الدفاع عن سجنها وإيقافها وأختها عبر موقفها من البكارة التى رفضت أن تتحكم فى مصيرها عبر العمل كشرف، وكرد تقدمى على العقلية الذكورية، إذ تقول الكاتبة ص 166 «سأهب حياتى لأخوتى وأمى، سأصلح آلة الخياطة التى كسرها أبوك، وسأرتق الثوب المتخرق لا البكارة المغتصبة، وسأخيط القماش لا العذرية».
أما المدينة فمحكومة هى أيضا فى نص كفارة بثنائية عجيبة الأحياء الراقية بسيدى بوسعيد، وخلفها علاقات جنسية خاصة، كعلاقة الرجل بالخادمة، وعلاقة الأخيرة بربة البيت، وعالم الماخور فى أحواز المرسى تديره مومس أحيلت على التقاعد من مبغى عبد الله قش، يرتاده العديد من الرواد، ومنهم القاصرات، فلعبة الجنس والجسد هناك، وما خلفتها من مآس كالرجل الذى وجد ابنته فى انتظار زبونها، وهذه الجدلية خلفت مآسيها أيضا بالأحياء المفقرة والهامشية التى اتسمت بالفقر والحرمان والعمارة الآيلة للسقوط، وخلفها سقوط أخلاقى واجتماعى كالسرقة والمخدرات والجنس المبتذل وبالمدينة أيضا فى أحيائها الراقية سرقات وانتهاكات من نوع آخر، ومن الحجم الكبير كقصة البانكجية ومضيفة الطيران والطبيبة وإجهاض القاصرات، كما حضرت الكاتبة خلف أبطالها، رافضة هذه الانتهاكات، أكانت فى الحى الراقى أو خلف المنازل الخربة أو فى ريف هذا البلد؟.
وعن الغرب فإن العمارة والمعمار والبناءات الضخمة أخفت عقلية أخرى لم تعكس جوهر التمدن، فقدمت أكثر من مثال «الغربية» التى ملت حياتها والحضارة وتفتش عن جوهر آخر للحياة يحتويها ويقدم لها حلولا وتطلعات أخرى، البطلة وتذبذبها وهى القادمة من عمارة وعقلية أخرى لم تستطع رغم انفتاحها قبول عدة تصرفات فى فترة مكوثها بالغرب، كما لم تعكس هذه العمارة وما تتطلبه من نسيج معرفى حياتى، فالعديد يعيش فى الغرب بعقلية شرقية مغلقة.
كما اضطرت البطلة عندما تنقلت للعاصمة وأحدثت لها هذه النقلة رجة نفسية ومعرفية، فتغيرت مثلا نظرتها إلى منزل العمدة مقارنة بمنزل ميمونة ولوحاتها وأثاثه المميز وغيرها من المحطات التى اعترضتها للتوقف والإمعان والتفكر ومن ورائها القارئ والناقد.
إن الكاتبة حبيبة محرزى فى نصها الروائى «كفارة الحبس للنساء» أحضرت العمارة كأبنية حجرية وكبنى تفكير اختلفت باختلاف الأمكنة، مع استثناءات هامة وقفت على ذكرها الكاتبة لتقول إن البنى الفكرية غير ثابتة ولا ترتبط إلا جدليا بالعمارة والمعمار وفى حركة تأثير وتأثر.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.