انفجار حلم لم يكتمل.. قصة قصيرة لــ أحمد البدرى
لم كل هذه الضوضاء داخلى؟.. لم يك نومى هادئا هذه الليلة، رغم أن من يشاهدنى ممددًا على ظهرى يظن أننى نائم نوما عميقا، هو كذا بالفعل فقد كنت هناك حيث يوجد غيرى كثيرون، هؤلاء الذين لم تسعهم الأرض ولا السماء وقد ضاقت بهم كل السبل؛ لذا قرروا الرحيل فى صمت والسكن هناك فى عالم يخصهم هم، وقد حددوا ماذا يريدون.
لم أحس بغربة المكان ربما كان يناسب تكوينى تماما.. لم أشعر بالاغتراب، كانت الابتسامات تصافح وجهى من كل الاتجاهات.. نظرات الترحيب تحتوينى.. تضمنى بحنان طبيعى لم يصل إليه الزيف بعد، طاقات إيجابية تخرج مع ابتساماتهم وتكسو أجسادهم الفارعة، كنت أظن أننى قزم بينهم، هالات النور المتدفقة من وجوههم تجلو حزنا سكننى كثيرا، لم أنزعج عندما تركتنى روحى متمردة على جسدى المثقوب بآلاف الثقوب التى تركها الحزن وهو يخترقها إلى روحى، ظلت روحى تلهو كطفل صغير بينهم، أكفهم تحنو على، أكتشف مذاقا جديدا تماما للحنان، لم يكن الزمان ولا المكان يحدان نوبات التحليق والطيران والتوغل فى الأطراف النائية من مملكتهما اللا نهائية المساحة والأبعاد.
فى تلك المملكة كان جدى يقلب حلمه ويعاود رؤيته مرات كثيرة، دائما يتوقف أمام ميلاد هذا الحلم وهو يخرج من بؤبؤ العين، كان يخشى اصطدامه بسيوف الرموش البتارة، ولأنه حلم يجيد المراوغة اكتسب مهارات عدة للتسلل بعيدا عن أغلب ما يعوقه، اشتد عوده وتفتحت براعمه، فلم يكن هذا هو الخروج الأول من شرنقته.. ربما تكور واستدار وتوقف عن التمدد والنمو مرات كثيرة، لكنه لم يفقد قوة الاستمرار حتى غزا الطبقات العلوية، وجد مكانه قريبا من هالات الضوء المتلألئ وتدثر بدفئها، أيقن أنه فى طريقه أن يصير كائنا له خصوصيته قابلا للحياة بين الآخرين.
كانت حدقات الجد تتسع مع كل مراحل نمو حلمه، كانت نبضات قلبه تزداد، معدل تدفق الدم يتحول داخله إلى شلال عصىّ السيطرة عليه، الدفء أشغل الحلم وانصهر تحلل داخل شرايين الجد.. لم يعد قادرا على تحمل تلك الشلالات، انفجرت أوردته تساقطت الدماء المحملة بذرات الحلم المنصهر احتوتها التربة، نبت الحلم من جديد وخاصة تلك التربة المشبعة بظلال آلاف الأحلام تساعده على التجربة؛ نما الحلم من جديد.. ظل جدى يعيد تكرارها وإعادة تكوينه من جديد حتى جلس هذه الجلسة يشاهد ويحصى عدد أحلامه التى لم يبق منها إلا ظل غير مستقيم كل مرة.
لكن صوت جدى الشجى أمرنى أن أقترب منه، همس لى ألا أحلم وأنا فى تربة مخضبة بدماء أصابها الألم والحزن، وتلك التربة الهشة التى دمرتها نفايات أحلام لم تكتمل، لم يكن حديثه يتوافق مع هذه المملكة والأرواح النورانية، فعارضته وكل هذا الملكوت يعج بالنقاء والنورانية، سخر منى وقد ارتفع صوته هذه المرة: بقدر ما هذه الأرواح يا ولدى تركوا أحلامهم وتخلوا عنها لكم، وهم الآن لا يعرفون عن بقايا الأحلام شيئا.
عدت إلى فراشى وقد ملأ روحى صراع مرير أصابنى بالصخب والضجر.. تلك المفارقة الغريبة بين أنوارهم وبين ما قاله جدى لى وما يحاول رؤيته ألف مرة وإعادة مشاهدة أحلامه، وتلك الطيور الخضراء التى تحولت إلى جوارح تحصد ما ينبت من أحلام، لحظتها تمنيت أن أتحول إلى خيال مآتة أهش عنهم وأبعد تلك الجوارح عنهم مهما نقروا رأسى وسرقوا حلمى.
صحوت وما زال الصداع والصخب والإحباط يقتلون صور النورانيين ويطردون شذاهم، لكنى ظللت أتحسس رأسى وجسدى أحصى عدد الجراح، ولا مانع أن أنظر فى راحتى بين الفينة والأخرى أتأمل وأتألم: هل هناك دماء تتدفق من روحى محملة بذرات حلم انفجر؟.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.