ترجمات.. «بريستيل» يرصد فى كتابه «مدن تثير العاطفة» أفكارًا حول التحول الحضرى فى برلين والقاهرة


قصة مدينتين تفصلهما آلاف الأميال وتجمع بينهما مشاعر يثيرها التغير الحضرى والانفتاح على ثقافات جديدة، فتتأرجح مشاعر سكان القاهرة وبرلين بين الهدوء والتوتر العصبى، الشرف والعار الاحتياج إلى الحب والتمسك بـ الاخلاق.. قدم جوزيف بن بريستيل فى كتابه «مدن تثير العاطفة.. أفكار حول التحول الحضرى فى برلين والقاهرة 1860-1910»، تحليلًا للمشاعر المقترنة بالتغيير الحضرى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فى برلين والقاهرة فى تلك الفترة، فمع زحف الثقافة الفرنسية على برلين والاستعمار البريطانى لمصر فى القرن التاسع عشر ضاعت رابطة الأخلاق فى ألمانيا والقاهرة. ومع هذا التغيير الذى شهدته المدينتان ظهرت حاجة ملحة إلى تغيير إيجابى يريح الأعصاب التى أعياها ضجيج المدينة ويثير مشاعر إيجابية فقدها سكان الحضر. فظهرت فكرة الضواحى الجديدة ومدن الحدائق والثقافة البدينة فى المدينتين. ومع المسافات الجغرافية والثقافية التى تبعد بين القاهرة وبرلين يكشف المؤلف عن أن النصف الثانى من القرن التاسع عشر شهد جدلا واسعًا فى المدينتين عن التغير الحضرى وأثره على السكان، وهو جدل يثير تساؤلات عن مدى صحة التباين بين تاريخ مدن أوروبا والشرق الأوسط فى خلال هذه الفترة.

يتحدث «بريستيل»، فى كتابه الصادر حديثًا، عن المركز القومى للترجمة برئاسة الدكتورة كرمة سامى ستيل، وترجمة ريهام أبودنيا، مراجعة وتقديم الدكتور عاطف معتمد أستاذ بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، عن العلاقة ما بين التطور المدنى العمرانى وما بين الثورة الصناعية، وتأثير ذلك على العلاقات الإنسانية والعلاقات العاطفية، وكيف ساهم تطور الصناعى والعمرانى وانتشار التعليم فى التأثير فى العلاقات الرومانسية ما بين الجنسين.

ووصف الدكتور عاطف معتمد الكتاب بالمهم، قائلا إن مؤلف الكتاب – جوزيف بِن بريستيل – حاصل على الدكتوراه عن هذا الموضوع من جامعة برلين، حيث تردد على القاهرة واستعان بخبرة مؤرخيها وقارن الوثائق التاريخية لتلك الفترة فكشف عن أوجه شبه بين هموم المدينتين.

لقد تم اختيار كل من برلين والقاهرة كحاضرتين كبيرتين، تغيرتا حجمًا وعمرانًا لتصبحا من أكبر المدن فى العلم بحلول القرن العشرين. ولكنهما فى الوقت ذاته تمثلان حضارتين مختلفتين: واحدة فى الغرب وأخرى فى الشرق. فالكتاب يمثل نوعًا جديدًا من القراءة للتاريخ ولتطور العلاقات الإنسانية ومدى تأثرها بالأحداث العالمية والمحلية والتى تأخذها فى مسار التغيير، على مختلف الأصعدة: القانونية، والتنظيمية، والاجتماعية، والأدبية والفكرية وغيرها.

كان بريستل شغوفًا بالكتاب الذى وضعه العالم المصرى محمد ناصر فى نهاية القرن التاسع عشر عن علم النفس فى القاهرة، واعتبره شهادة على ازدهار التبادل بين المدينتين، فيما يتعلق بالأوضاع الحضرية فى كل منهما خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكان «محمد ناصر» يحمل لقب أستاذ يعلّم العربية فى جامعة برلين فى نهاية القرن التاسع عشر.

يتناوب «بريستل» فى الدراسة ما بين برلين والقاهرة فى الفصول المتتالية. فيبدأ بالسؤال حول ما هو الحب؟ وحول التأثيرات الأخلاقية التى جلبتها الثورات المتتالية فى أوروبا على بروسيا، هذا مع العلم أن برلين كانت فى القرن التاسع عشر عاصمة الإمبرطورية البروسية والتى لم تتخذ حجمها النهائى بوصفها ألمانيا بعد.

وبحسب المؤلف فإن تركيز هذا الكتاب على «العاطفة»، لا يعنى أن فصوله تنظر إليها بوصفها سمة إنسانية ذات بعد مادى. وإنما يتم تناول العاطفة كنوع من الممارسات التى يراها المعاصرون ربطت بين البعد الجسدى والعقلى والاجتماعى. ومن ثم فإن القضية التى يطرحها هنا تتمثل فى أن المدن فى جميع أنحاء العالم لم تتشابه مع بعضها البعض، كما أن العاطفة لم تقدم لغة عالمية لفهم التغير الحضرى خلال القرن التاسع عشر، وإنما قد تستطيع المناقشات التى تتناول العاطفة أن تعكس أوجه تشابه محددة فى تاريخ مدينتى برلين والقاهرة، ولذلك فإن دراسة المصادر التى قام فيها المعاصرون بتصوير الحب والشرف والاشمئزاز كأحاسيس تأثرت بتحول المدينتين من شأنها أن تفتح آفاقًا جديدة لدراسة التغير الحضرى فى القرن التاسع عشر.

من هنا يطرح المؤلف فى هذا الكتاب تصورًا للعاطفة أو الإحساس على أنها ممارسة اجتماعية، وعلى النقيض من أنواع الممارسات الأخرى فإن العاطفة تمد جسورًا بين الجوانب الاجتماعية والجسدية والعقلية، وفى حقيقة الأمر فإن الفصول التالية لا تتساءل عن معنى العاطفة وإنما عن الأنشطة التى تقيم الصلة بين السياق الاجتماعى والجسد والعقل، وتُعد ممارسة الدعارة مثالًا لهذه الانشطة كما ورد فى الكتاب عن برلين والقاهرة فى أواخر القرن التاسع عشر، حيث صور المعاصرون الدعارة كمشكلة اجتماعية أمرضت الجسد وأثرت على العمليات الإدراكية والتفكير.

يتألف هذا الكتاب من ستة فصول مقسمة قسمة عادلة على المدينتين يبدأ بالعرض للتغيّرات السياسية التى نشأت فى برلين ومن ثم فى القاهرة. حيث يركز على العلاقة التى بين نشأت بين الناس بسبب تدفق المهاجرين إلى كل من المدينتين. كما يركز على تبعات التغيير المدنى بين الناس، والذى أدى إلى نشوء علاقات اجتماعية خارجة عما هو مألوف. ففى كلتا المدينتين انتشر البغاء، والذى أطلق عليه فى مراحل متقدمة بتجارة الجنس. يركز الكتاب على الفترة التاريخية التى شهدت تغيرًا حضريًا مكثفًا فى برلين والقاهرة وتمتد من 1860 إلى 1910 تقريبًا ويعرض كل فصل تحليلًا للمناقشات التى دارت حول التغير الحضارى والعاطفة فى إحدى المدينتين فترة زمنية، حيث ظهرت المناقشات حول العواطف فى برلين بعد منتصف الفرن التاسع عشر.. ودارت المناقشات فى القاهرة فى ستينيات القرن التاسع عشر، وبدأ الجدل حول التغير الحضرى والعاطفة فى كل من المدينتين فى سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر.. هذا هو التصور القاتم للتغير الحضرى الذى ساد برلين والقاهرة فى مطلع القرن العشرين، قام المؤلف فى الفصل الخامس بتحليل محاولات مقاومة الآثار السلبية لعملية التحول التى خاضتها برلين فى الفترة 1889 و1910 ففى هذا الفترة سعت مبادرتان لإصلاح عاطفة سكان الحضر. ولقد أشار عدد من المعاصرين إلى أن الضواحى التى تمت إقامتها بعيدًا عن وسط المدينة كان من شأنها أن تمد السكان بالعواطف الإيجابية التى فقدتها المدينة وحملت المبادرات التى نادت بـ«الثقافة الجسدية» بشرى سارة. كما يعرض فى الفصل السادس المحاولات المشابهة التى جرت لإصلاح العاطفة فى القاهرة فى نفس الفترة تقريبًا. رأى المعاصرون فى كتاباتهم فى الصحف والكتب العربية أن الحياة خارج المدينة وممارسة الرياضة يعززان الجانب العقلى لسكان المدينة ويثيران عواطف إيجابية.

إذا قد يعد الريف فى هذا السياق مكانًا يثير العواطف الحقيقية التى افتقدها سكان الحضر.



اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading