سارة طالب السهيل تكتب: موت الضمير وغياب صوت الحق وانتشار البدع والجرائم الوحشية
كلما رأيت مشاهد القتل والتدمير والتخريب والتهجير للأبرياء من أوطانهم، أجد اغتيال الأطفال حديثى الولادة والرضع، أو تجارة الأعضاء البشرية أو الغش فى البيع والشراء، وأجد الغنى يزداد ثراء والفقير يزداد فقرا، وتهافت الدول الكبرى على كعكة عالمنا العربى بتمزيق دولها وزرع الفتن فى صفوف شعوبها، وانتشار البدع التى تضييع أدياننا السماوية، عندما تنتشر الجماعات الإرهابية باسم الدين، وينتشر الخوف مع التغير المناخى، وأجد همّا وحزنا وظلما.
فلم نعد نشعر بلذة العيش فانتشار الكره والشر والجريمة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات حتى مخططات الدجال لتنفيذ المليار الذهبى وزرع الفتن بحجة اختلاف الدين أو المذهب أو الفكر والرأى وتفريق الناس وتشتيت الأمم وشرذمة المجتمعات تدور بى الدنيا بحثا عن الأسباب. فلا أجد أمامى مبررا منطقيا لما نعيشه سوى موت الضمير، ذلك السر المكنون الذى فطر الله تعالى به الفطرة الإنسانية، وجبل به كل بنى آدم منذ بدء الخليقة.
فموت الضمير يعد بطلا رئيسيا لكل الأزمات والكوارث وتهديد السلم والأمن الاجتماعى والنفسى، فهو وراء الاستغلال والنفاق والخيانة والغدر والازدواجية وتوظيف الدين لأغراض دنيوية رخيصة وهو سبب ارتكاب الجرائم كلها ووحشية الإنسان. بينما الضمير الإنسانى الحى هو الناصح الأمين لكل سلوك بشرى، فهو محكمة لا تحتاج لشهود ولا قضاة، لأن أحكامه نابعة من القلب. وهو خفى بداخلنا مضمر، الضَّمْرُ فى اللغة أى: الخَفِىٌ أَو المُخْفَى. لكنه كضوء الشمس يمدنا بالحيوية والانطلاق والطاقة والحياة، وكالبدر المنير ينير ظلمات الدياجى، وبه تتحقق إنسانيتا وبدونه نتحول لغابة يفترس فيها القوى الضعيف بلا رحمة ولا هوادة كما نعيش عالمنا اليوم المتوحش.
وقد تعددت رؤية الفلاسفة للضمير، بينما يراه الفيلسوف الفرنسى روسو أنه قوة مضمرة تنبع من أعمق أعمال الإنسان كقوة خفية تسكنه وتوجِّه حياته. وهو الصوت الذى يعلو على صوت العقل لكونه غريزة تعبِّر عن جوهر الإنسان الطبيعى، وتجعله يعلو فوق البهائم، فيخرج من الضلال، ويميز الصواب والخطأ، فالضمير الإنسانى عند روسو هو المعيار الحقيقى لإنسانية الإنسان.
أى فعله الذى لا يقوم به أحد سواه وهو لا يكذب أبداً، ولا يتغيّر أيضاً، ويمنح الإنسان المصداقية التى تعصمه من كلّ شك أو خطأ، ولذلك هو مبعث طمأنينة وثقة، فالضمير يبقى هو القوة الموجهة للسلوك الإنسانى، سـواء كان مبعثه عاطفياً فطرياً أو فعلاً عقلياً حراً. وفى الأحوال كلها، فإن الضمير يحتاج إلى بيئة تربوية تنشئة، لأن الإنسانية إنشاء تربوى كما يقول كانط، وبذلك يكون للضمير جانب اجتماعى لا يمكن تجاوزه.
ومن ثم، فإن وجهة نظر علم الاجتماع، ترى فى الضمير صوت المجتمع فينا، فالمجتمع هو الذى وضع فينا عند تربيتنا تربية أخلاقية هذه المشاعر التى تملى علينا سلوكنا إملاءً، وقد سكن فينا الضمير ويصاحبنا، حيث كنا ويراقبنا. فالواجب أى الضمير إذًا ليس نتاج العقل العملى كما تصور كانط ولا نتاج فعل العاطفة كما تصور روسو، إنه وليد المجتمع الذى يفرض علينا قواعده، ويضبط الحدود لطبيعتنا.
والضمير الإنسانى حسب علم الاجتماع التربوى هو مجموعة من القيم الأخلاقية التى تتحكم فى سلوك الإنسان، وهو أفضل منظومة الأخلاق السامية التى يمكن أن يتحلى بها كل فرد. ويرى علماء النفس فى الضمير الإنسانى جهازا نفسياً داخل الإنسان يتأثر بتقييم الفرد لنفسه أو تقييم الآخرين له، ويكون هذا التقييم للشخصية كلها.
أما الضمير من المنظور الدينى ففى الكتاب المقدس بطبيعته غريزة روحية تُفرِّق بين الخير والشر بجلاء وبسرعة أكثر من الذهن. ومَن يستمع لصوت ضميره لا يندم قط، أو يخجل من سلوكه. يُسمَّى الضمير فى الكتاب المقدس «القلب». وفى العظة على الجبل شبَّه يسوع المسيح. الضمير بالعين، لأن الإنسان يُقيِّم بها حالته الأخلاقية، إذ قال: «سراج الجسد هو العين».
وفى المفهوم الإسلامى، فإن الضمير هو النفس اللوامة التى تلوم صاحبها إذا أخطأ فى حق الرب والعباد، فيسارع إلى التوبة والندم وإصلاح ما أفسده كى يتطهر وتزكى نفسه وتصفو، فالضمير هنا هو تزكية النفس وتطهيرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة وكما يقول الله فى محكم كتابه: «وَنَفس وَمَا سواها، فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىاها، قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا». (الشمس ١- ١٠).
أى أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، أَى: بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ وَالرَّذَائِل، وَقَدْ خاب مَنْ دَسَّاهَا. أَى: دَسَّسَهَا، أَى: أَخْمَلَهَا وَوَضَعَ وبعد عن الحق حتى رَكِبَ الْمَعَاصِيَ وَتَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
لذلك جاءت دعوة نبينا المصطفى (اللهم آت نفسى تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، أى طهرها وهذبها واحفظها من الغفلة، ومن الوقوع فى براثن الظلم والظلمات. من هذا المنطلق الإسلامى، فإن الضمير هو سر داخلى أودعه الله داخل الإنسان يستطيع به التمييز بين الصح والخطأ، وبين الحلال والحرام، وبين النور والظلام فبعض الناسعندما يظلمون يشعرون بلوم لأنفسهم.
لأن لديهم ضميراً، والبعض الآخر يولد بضمير، لكنه يقتله حتى يُصبح بلا ضمير، فالضمير يقود صاحبه للخير، ويبعده عن الشر كما فى حديث وابنة ابن معبد الذى سأل الرسول محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم فقال له: «يا وابصة، استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى القلب. وتردد فى الصدر، وإن أفتاك المفتون» رواه أحمد بإسناد حسن.
ووفق هذه التصورات، فإن الضمير هو «النفس اللوامة» التى تلوم صاحبها على الأخطاء التى يقع فيها، سواء كانت أخلاقية أو دينية بإصلاحها. ولذلك نجد البارئ جل جلاله قد يقسم بهذه النفس تعظيما لها ولأنها الوحيدة التى تستطيع إرجاع الإنسان إلى ربها، وإلى الحق مهما كانت جرائمها كما فى قوله تعالى: (فلا أقسم بالنفس اللوامة).
فكل بنى البشر مولود بفطرة الضمير، مما يجعله يستغفر ويتوب عن ذنب السرقة، مثلا الأول بعد أن آلمه ضميره، ويتمنى ألا يكرر سرقته، ويظل الضمير حيا صوته عالياً داخلنا محذرا لنا مهما حاولنا إسكاته إلا إذا تعمد الإنسان موته بتكرار الأخطاء والعدوان على العباد، فيألف الإنسان الذنوب، ويعتادها فيموت الضمير، ويكف عن التأنيب.
برأيى أن الضمير هو صوت الله الخفى فينا يوجعنا عندما نظلم ويغبطنا عندما نعطى كل ذى حق حقه، ونربت بيدنا على اليتيم، ونعطى المسكين ونعطف على الضعفاء، ونرحم الحيوان ونحارب قوى الشر ومنع الاحتراب، وننشر السلام ونقيم العدل، ونتراحم ونتحاب معا، ونزكى أنفسنا بكل عمل صالح بلا تكبر وعلو، مما يجعلنا أهلا للخلافة على الأرض.
مصداقا لقوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا….)، فما أجمل أن نعتذر عندما نخطئ ونحاول إصلاح ما أفسدناه بعقولنا، وما أجمل أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين لا نخون من ائتمننا، ولا ننقض العهود، وما أبدع أن ننجز أعمالنا على الوجه الأكمل حتى نحلل أرزاقنا، وهنا يتجلى فينا الضمير الحى الذى هو صوت الإله الخفى فى قلوبنا، إله الحب والجمال والخير والعطاء.
فالإنسان قوته النفسية والروحية من مصدر الضمير الكامن فيه، فيعيش فى جنة على الأرض إذا استمع لصوت ضميره، ويعيش فى سجن وشقاء ونار الحياة إذا أمات هذا الضمير، ويا حظه السعيد من اتخذ ضميره صديقه الوفى يرشده وينير دربه على الدوام ووقتها يشعر براحة بال مهما اهتزت الجبال، وتصحرت الأراضى وجفت الينابيع من حوله فهو فى سكينة ورضا وطمأنينة منتظرا الفرج من رب البرية.
ولكل من يؤمنون بالعقل والمنطق على أهميتهما، أقول لهم إن المنطق قد يقودنا إلى الخطأ فى بعض الحالات وتدمير البشرية كما فى العلوم العقلية التى قد تنحرف عن مسارها، وتدمر البشرية بالأوبئة المصنوعة والقنابل النووية وإحراق الغابات وشن الحروب وتدمير اقتصاديات الدول وافتعال الأزمات لتجويع البشر، بينما الضمير الذى لا يمنعك من فعل الخطيئة، لكنه يمنعك من الاستمتاع بها، ويعذب روحك بها حتى ترجع إلى الحق، فأى الصديقين أولى بالوفاء؟!!
ولنتذكر أن الضمير أن تحب لغيرك ما تحب لنفسك وأن تراعى المحبة والخير مع الضعيف والقوى والصغير والكبير ومن تحتاجه، ومن لا تحتاج إليه الضمير هو الصوت الذى يحاسبك عند الغلط ويثنى عليك عندما تفلح، الضمير هو الرضا بداخلك عن نفسك، حين تشع كالشمس لمن حولك، الضمير هو تسامح ومحبة وأن تمد يد العون للجميع دون تفرقة على أسس دينية أو عرقية أو قومية، الضمير هو أن تنام.
وعلى وجهك ابتسامة، لأنك أكملت يومك دون أذية الناس وكنت شخصا خيرا مثمرا بالكلمات والأفعال والمواقف، الضمير أن تعتذر حين تخطئ، وتحاول دوما إصلاح نفسك للأحسن، لأنك لست ملاكاً، لكنك تسعى لأن تكون شبيها ولو بنسبة منهم، الضمير هو أن تكون صادقا مع نفسك ومع الآخرين، وألا تكون منافقا ومدعيا الضمير، ألا تخون من ائتمنك، وأن تفى بالوعود وأن تنجز عملك على أكمل وجه حتى تحلل رزقك، الضمير هو صوت الإله فى قلوبنا، إله الحب والخير والعطاء.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.