الموت بأسرع ما يمكن.. «قصة قصيرة» لــ محمد شلبي أمين


ها هو ذا الصباح، يأتى متثاقلًا، كأنه لا يبغى. ها هى ذى الشمس تشرق فى تردد كأنها لا تريد.

ها هى ذى العصافير على الأغصان صامتة، ترقب فى حيرة وألم. ها أنا ذا أستيقظ من نومى كَدُمية فرعونية استُخرجت من قبرها حديثًا. أستنشق بصعوبة بالغة، أحاول جاهدًا أن أرسم على شفتى ابتسامة، ليبدو وجهى باسمًا أمام وحيدى وبقيتى الباقية من أهلى، تخرج صفراء باهتةً، تظهر سعادتى المصطنعة طافيةً على محيط آلامى.

أُجرى الماء على مواضع الوضوء من جسدى لعلى أستفيق، أسجد رغم الألم لربى شكرًا، أطيل وأبكى، لعل بكائى يطهر من ذُلْ ذنوبى، ويفك أسرى.

نسير أنا وهو سيرًا متقطعًا كأننا نُساق إلى منتهانا، أنظر إليه وأطيل النظر، أتمنى أن أضمه ضمة قويةً، أمزق بها تلك الأسلاك الشائكة التى ضُربت بينى وبينه، وضعت يدى على كتفه، طوقت بها عنقه، أسندت رأسه إلى صدرى، فى محاولة للتأكد من أنه لايزال بجوارى حقيقةً، وليس حلمًا، وَقْعُ الأقدام التى تدق الأرض يؤثر على تفكيرى، وعلى رؤيتى أستنسخ بداخلى إنسانًا آخر مِنى؛ لعله يكون أفضل الناس يبكون على جانبى الطريق.. «مشهدُ يومى».. النخل والزيتون يصرخان على مدخل القرية.

وقف يقرأ بانفعالٍ، ما كُتِبَ على الجدران. يردد بصوت عال: نموتُ… وتحيا الأمة الضائع منها الحلم. نموت…وتحيا الأرض الميت فيها النبت. نموت… وتبقى حرية هذا الشعب أبد الدهر.

قلت محاولًا قطع تفكيره عليه: فكر يا ولدى فى معنى الذُلْ، والحرية، فكر قبل غياب الشمس، فكر قبل رحيل العمر.انتهيت.. انتظرته يجيب ويقيم الحوار كعادته.. لم يُجب، أعرفه بانفعالاته، بطبعه الثورى، لكنه اليوم صمت صمتًا طويلًا، بطول الطريق استوقفونا.

«مشهد يومى» منعونا من السير، أمرونا بالعودة، انفعل وثار، حاولت منعه، جذبنى أحدهم من رقبتى، دفعنى بعنفٍ، التصق وجهى بالتراب، ازدادت ثورته، حاول أن يفك عنا أسر السنوات الضائعة، أن يزيل عنا عذاب العمر المخنوق بأيديهم. أمسك بحجر قبل أن يرميه، كانت سنوات عمره قد انتهت.

استقرت فى صدره رصاصات عمياء، لا تدرى ما صنعت. قتلته وقتلت معه الجيل القادم، والأمل المعلق والحلم المنتظر. وجدته بجوارى ممددا على الأرض، لم ينطق. «مشهد يومى» شجرة عمرى قطعوها بفأس الحقد، حققت أمنيتى وضممته بقوةٍ. وانتظرتهم يكررون ما فعلوا معى؛ لكنهم أبوا، ترفعوا عن ذلك، تركونى، تركوا مرارة الموت فى حلقى؛ ومعناه فى جوفى.

حملته على ظهرى، وعدتُ بهِ. «مشهدُ يومى». واريته التراب، وجلستُ أبكى. رأيته نورًا يملأ الأفق الرحيب، وجدته يحمل بين يديه أحجارًا، صرخت: «يا ولدى: أحجار العالم لن تكفى».



اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من شبكة الريان

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading