دقة قلب.. د. ياسر ثابت يكتب: حسين جبيل.. القديس الأخير
فى الذاكرة حائطٌ عليه صورٌ بألوان الشفق لرفاقٍ مثل ينابيع الشمس. لم يحرقوا سفنـًا، ولا صارت قلوبهم تماثيل ملح. باقون فى البال، كأن الفصول لم تمر من هنا. واسطة العقد فى هذه الصور للجميل حسين جبيل.. الجنة الوحيدة فى صحراء الورق.
ذلك الرجل الذى ودَّع كل حروب التاريخ؛ لأنه يعشق الحياة. ترك كل شىء للطامعين فى الحطام الصدئ للوجاهة، المتوغلين فى الخواء والمعفرين بغبار التيه، والتفت إلى مواكب فنه وكتبه وموسيقى بليغ حمدى.. وتنهدات النساء.
ساحر الخطوط، يُخفى فى مكانٍ ما- لعله قلبه- أسرارًا ومخطوطات عن خط الكحل الناعم، وفضل اللون الخمرى الذى يصرخ فى الدانتيلات الرقيقة، ولهفة النهود المتوثبة التى تطالب بحقها العادل فى الظهور، حتى ترضع منها الغيوم والغوايات المعلنة. يرى المرأة على صورة بُراق النبى: وجه فاتنة وجسد فرس عربية مطهمة.. حين تنسل إليك تهديك فراديس، وشجرة توت، وليلًا يصوم عن النهار وخرائط إلى مملكة الوصال.
ويعشق فى بليغ عبقرية اللحن التى ترشق الأفق بالأمل، ودلال الرق والزخارف، والولع بالفلكلور الذى يجتاحك كقُبلة جامحة.
و«جوبى» لا يكبر أبدًا، كأنه «بنجامين بوتون» إذ يعكس اتجاه الزمن. تصالح مع الوقت حتى هزم أوّل شَيْبة فى الرأس، وتفاوض مع نار الشغف، التى كلما تصاعدت ألسنتها ألقمها قلبه.
الهواء من حوله خدعة.. والهراء المنتشر تمثالٌ بشع نُحِتَ على عجل، لكنه يرمم الصورة كى يخلق أصلًا موازيـًا، نقع جميعـًا فى غرامه.
أوراقه الغرائبية وألوانه الساطعة معجزته الخاصة. إن رسم نهرًا وضفتين، نبتت فى النهر سفنٌ وعلى الضفتين حياةٌ تشتهى أن تكون بطلها الأخير. وإن رسم مقعدين، تهافت عليهما عشاق المدينة، وظللتهما شجرة نادرة ممتلئة بأعشاش العصافير الحائرة، حتى يمارسوا الحُبَّ عن تراضٍ مُحكم بإتقان.
وإن رسم ليلة، رأيتها أمام ناظريك تمضى نحو باب الصباح. رسوماته تتحدى الجاذبية، تبقى على جدران الروح، فلا تسقط أبدًا. يرسم الوجوه كأنها نصوص القداسة، يُذكى فيها الحياة والحيوية، وبلمسةٍ أخيرة من روحه الأثيرية الباسمة، يضيف إليها إعجازًا ما لا يُدرّك.
قد تراه بخلوده المعقود يمشى وئيدًا، مثل النهارات المتمهلة، ثم يغُذ الخطى ويطوى المسافات بأناقة، مدفوعـًا بحصار الظهيرة، حتى يؤوب إلى غرفة تتلقف وقع خطاه، ويخفض جناح الود للرفاق كى يستدرجهم إلى مكيدة الفرح.
مشهدٌ لو حضره مصمم رقص ذات يوم أو ليلة، لعقد العزم على استنساخه فى عملٍ فنى طموح.
بابتسامته النصفية الماكرة، يربك البهاء، الذى يربيه فى أدراج مكتبه، وسط أقلام الرصاص وجهاز تسجيل صغير من البرونز كأنه قمرٌ فى المحاق.
فى ساعات القراءة، يعتزل الكون إلا قليلًا.
يمتد ذلك الانفصال عن العالم إلى ما يشبه التعبّد والصلاة. تنام الكتب فى راحتيه الشائقتين العارفتين، اللتين تشبهان سلامه النفسى العميق.
فى الاستراحة ما بين فصلين، يمتد بينك وبين هذا العائد من النسيان حديثٌ متشعب قد تتخلله وقفات حيرة وارتباك، من غير أن يمنعه ذلك من الاستمرار وطرح آرائه بوداعة كاهن فى جلسة اعتراف.
يتكلم بصوتٍ أقرب إلى همس أطيافٍ موغلة فى البعد والغموض، وربما يشبه هذيان السحرة وهم يعقدون جلسة ليليّة تحت قمر كبير يتربع على عرش سماء مفعَمة بالنجوم.
معه قد تصدق فعلًا أن الشُهب والنيازك تلعب النردَ فى مرابع السماء.
ضحكته القصيرة المحتالة وشم الوجود. قد يُحدثك- تاركـًا شايه يبرد- عن الجنية القروية التى يلتقى بها فى العطلات، والقوارب الطائرة التى تخرج منها يدٌ تلوّح له بوردة وأحلام مشدوهة كلما صادفته جالسـًا فى مكانه المفضل فى نادى اليخت، ثم يرسل إليك بعينيه الآسيويتين الضيقتين نظرة تقول «أنا الذى لم يُهدنى أحدٌ وردة فى حياتى كلها».. فلا تصدقه!.
هذا القديس، المحتال، التقى، الماجن، المؤمن، المجدِّف، المسالم، المشاكس، الرصين، البشوش، هو كل ما تحتاجه لكى تصير من أتباع مذهب آية الله جبيل، الذى سيُربِّتُ على كتفك بكل نبل الفلاسفة، ويفيض عليك من حكمته، كأن يقول لك وكحول الدهاء يفوح من فمه: فى ألحان بليغ.. بلاغة الأمنيات.. إنها مثل ارتعاش الحب، بلا كلمات!.
قبل أن تهز رأسك أو تقوم من مجلسك، وبألاعيب لا تنتهى، سيختفى القديس فى حرير الهواء.
اكتشاف المزيد من شبكة الريان
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.